أيا كنت يا قارئ هذه السطور، فكر في مكانتك وواجباتك، في موقعك الحقيقي والأبدي ككائن خرج، بمشيئة أحدهم، بعد أبدية كاملة من العدم إلى المجهول، في واجباتك الحقيقية النابعة من مكانتك الحقيقية ككائن استُدعي إلى الحياة ووهب عقلاً وقلباً”
- (أيها الجنود، عدوي هو عدوكم)
اجتاحت العالم حركة الخدمة العسكرية الإلزامية انطلاقاً من ألمانيا التي كانت أول من حدس به وطبقه، تلك الفكرة التي كما نعلم أنتجت لألمانيا لاحقاً بعد وفاة تولستوي بعقدين شخصية عسكرية رفعتها عالياً بفعل العنف حتى تكالبت عليها بقية الأنظمة العنيفة لتسقطها من هناك وتفككها وبالتالي دمرتها، تلك هي شخصية الديكتاتور النموذجي (هتلر) الذي أتم تحقيق العنف باسم الحكومة والدولة وبالسلطة العسكرية، فهل كان ذلك هو الهدف ؟ : “كان على الحكومات أن تجنب البشر قسوة صراع الأفراد وتخلق لديهم الثقة في رسوخ نظام الحياة الدولتية، لكنها بدلاً من ذلك تضع على عاتق الأفراد حتمية ذلك الصراع ذاته، ناقلة إياه فحسب من الصراع بين الأفراد الأقربين إلى الصراع مع أفراد الدول الأخرى، وتبقي على ذات خطر هلاك الأفراد والدولة في الآن ذاته” لكن لنرى الختام الألماني بشكل أوضح علينا أن نعود لأسس الخطاب، فلنقرأ الجزء الذي يورده تولستوي من خطاب ويلهلم الامبراطور الألماني لجنوده في 1891م: (أيها الجنود لقد أودعتموني أنفسكم بالروح والجسد، بالنسبة إليكم هناك عدو واحد فقط، وبالتحديد عدوي، في ظل المكائد الاشتراكية الحالية قد يحدث أن آمركم بإطلاق النار على أقاربكم، على إخوانكم، بل حتى على آبائكم –لا سمح الله- وحينئذ يجب عليكم تنفيذ أوامري دونما اعتراض) 170
من هنا يواصل تولستوي تفكيكه لعنف السلطة وأثره في المحكومين (الشعب): “حسابات السلطة تكمن في إيصال الخاضعين للعنف إلى أقصى الضعف لأن المقهور كلما كان أضعف كلما تطلب جهداً أقل لقمعه” الدولة تزعم أن الجيش لحماية الوطن من الأخطار لكن فعلياً يكمن استخدامه المستمر في: “الحكومات بحاجة إلى الجيوش قبل كل شيء آخر لحماية أنفسها من الذين تقمعهم ومن رعاياها المستعبدين” والعنف وليد الاستبداد: “استبداد الحكومة دائماً يزداد تبعاً لزيادة عدد القوات ونجاحاتها الداخلية، وعدوانية الحكومات تزداد تبعاً لقوة الاستبداد الداخلي”
إذن عبر تخدير الجسد العسكري يتم بالتالي تخدير كامل الجسد، تحت التهديد بنفس السلاح (العسكري) وبالتالي تخدير الجميع بالخوف من العنف، ثم أيضاً، ولم لا، تجربة قوة التخدير: “يضع على جسده حديدة محماة، الجسد ينش ويحترق لكن المنوم لا يستيقظ” هكذا بالتالي تحت تأثير التخدير المركز يحدث التخدير العام ويتحول الشباب إلى أدوات: “شباب أوروبا يخضعون ويكفرون بكل ما يمكنه أن يكون مقدساً لدى الإنسان” يظل شبح المخاطر والحروب التي تستلزم العنف مخيماً على العالم طوال الوقت، حتى تغدو كل تحسينات الحياة الاجتماعية بلا جدوى: “تهديد الحرب الجاهزة للاندلاع في أي لحظة يجعل كل تحسينات الحياة الاجتماعية غير مفيدة ولا جدوى منها”
لقد كان واضحاً بالتالي لتولستوي ما أصبح يعرفه الجميع: “منذ أواخر القرن الماضي لم تشجع الحكومات أياً من خطوات البشرية إلى الأمام بل أعاقتها فحسب، .. سلطة الدولة والحكومات ليست فقط لا تساعد، بل تعيق صراحة، كل الأعمال التي يبتكر البشر عن طريقها لأنفسهم أنماطاً جديدة للحياة، سلطة الدولة ليست فقط لا تحمي من خطر هجوم الجيران، بل على العكس، هي التي تنتج هذا الخطر”
إذن هي ليست أكثر من حلقة عنف متصلة، وبالتالي: “مقاومة ما يعتبره المرء شراً بالعنف جنون” 156، ولهذا السبب يعلن تولستوي: “وسيلة القضاء على الصراع بين البشر جميعاً من خلال عدم استخدام العنف من قبل أي كان، خاصة السلطات” وعلى ذلك يبني تولستوي ما يؤمن به كخلاص، وخروج من حلقة النار، حيث الفرد الواعي والمنتمي الحقيقي هو: اللامنتمي: “أعلم أني لست بحاجة لفصل نفسي عن الشعوب الأخرى لذا لا يمكنني الإقرار بانتمائي المتميز إلى أي شعبٍ أو دولة ولا بولائي لحكومة”
- السلطة أبنية وأبناء
“ليست القلاع والمدافع والأسلحة هي التي تطلق النار، ليست السجون هي التي تسجن، ولا المشانق تشنق، ليست الكنائس تكذب، ولا الجمارك تعيق، القصور والمصانع لا تبنى ولا تسند نفسها بنفسها، بل الناس هم الذين يفعلون ذلك كله” 222
الأبنية السلطوية تقوم على الأبناء السلطويين وتتشابه وتمتزج بهم وفيهم، نفس التعابير الشخصية: “من دون تعظيم الذات، والحط من الآخرين، من دون نفاق وكذب، من دون سجون وقلاع وإعدام وقتل، لا يمكن لأي سلطة أن تنشأ وتستمر” والسلطة في الأصل إكراه وشر: “التسلط يعني الإكراه، يعني أن نفعل ما لا نريد أن يُفعل بنا، أي عمل الشر” حتى لو كانت السلطة تتبرأ من الشر وتدعي الخير لكن ذلك لايمكنها لأنه في الواقع: “الأشرار يتسلطون دائماً على الأخيار ويقهرونهم” 196
وللسلطة إغواء القوة ونشوة التحكم بينما من جربها يعرف: “ما إن يبلغها الإنسان حتى تنفضح تفاهتها وتفقد شيئاً فشيئاً جاذبيتها كالسراب الذي له شكل وجمال فقط من بعيد، ما يبلغه المرء حتى تختفي روعته كلها” 201، ومقابل نشوتها هناك (معادل نشوة) هو نشوة الخنوع والخضوع، تلك النشوة التي تجد متعتها في الضعة والسرقة والنهب مع إدمان التمسح بالسلطة ورشوتها بالخنوع والخضوع: “الموظفون المرتشون هؤلاء يذودون بالقول والفعل عن عنف الحكومة الذي تقوم رفاهيتهم عليه” 160
بالتالي في الأسفل، حيث يكمن الخانع والخاضع، تقوم منطقة الفساد، ليس كاستثناء للقاعدة كما يشيع النظام، بل كحالة طبيعية لابد منها: “مهما غيرت الحكومات موظفيها فإن معظمهم جشعون مرتشون ومنحطون أخلاقياً إلى درجة أنهم لا يلبون مطلب النزاهة البسيط الذي تطلبه الحكومات” 215
حتى الناس في الطبقات الحاكمة سيدافعون عن النظام تلقائياً: “”الناس في الطبقات الحاكمة يشعرون غريزياً بما يهدم وما يسند المؤسسة التي يتمتعون بفضلها بالامتيازات” 252، والسلطة كي تكون سلطة تدفع الجميع للتطابق معها: “السلطات الحكومية دائماً تتطلع إلى جر أكبر عدد من المواطنين إلى المزيد من المشاركة في جميع الجرائم التي ترتكبها والضرورية بالنسبة لها” 253 وذلك الجر يحدث عبر التحكم في النبع الحياتي (الشباب): “يوصلون الشباب إلى حالة من التخدير يكفون فيها عن أن يكونوا بشراً ويصبحون آلات سخيفة مذعنة للشخص المخدر” 162،
هكذا توصل العنف المكرس والممارس على مدى أجيال للدخول حتى في أدق مفاصل الحياة حيث سنعثر على تعبيراته المؤكدة في كثير من صور الظواهر الاجتماعية المختلة المختلفة.
إبراهيم سعيد