نظرات في الحجة الواضحة

قمت منذ مدة بتحقيق كتاب للشيخ عبدالله بن حميد السالمي، واتجهت إلى وزارة الإعلام لأخذ ترخيص بطباعته، ثم توجهت إلى مكتبة السالمي التي يملكها سعود السالمي، فأخبرته برغبتي في طباعة الكتاب، لكنه غضب من ذلك وأعتبر تحقيقي تعديا على ممتلكاته الخاصة، مما حدا بي لرفع دعوى عليه وقد كسبتها بحمد الله، وكان عنوان الكتاب (الحجة الواضحة في رد التلفيقات الفاضحة) كما هو موضح في عنوان الفهرس الذي جعله المؤلف للكتاب، كما ذكر في آخر المخطوطة عبارة: (مجموع رسائل للوالد عبدالله بن حميد السالمي، أولها الحجة الواضحة في الرد على التلفيقات الفاضحة) ولا بأس فالعنوان متشابه.

والكتاب يدل دلالة واضحة أنه للمؤلف من عدة نواحٍ؛ منها:

  1. نسبة الشيخ الكتاب إلى نفسه، وذلك في آخر الكتاب حيث يقول: (فهذا من عبد ضعيف العلم، ركيك الفهمَ إلى قولهَ الفقير إلى مولاه عبدالله بن حميد السالمي).
  2. أن الرد الذي كتبه مسعود بن علي كان موجهاً إلى الشيخ السالمي، وهو قوله: (فأقول منكراً على هذا الرجل السالمي الضرير).

ولقد أوضح المؤلف البواعث التي دفعته لتأليف الكتاب، وهو الرد على من تعاطى الفتوى بغير علم، وذلك بقوله: (فرأيت الإنكار عليه –أي على ابن شيخان– كالفرض المتعيّنَ … فشرعت في الجواب مستعيناً بالملك الوهاب……).

وقد تكلم الشيخ في رد الشبهة التي أوردها المعترض مسعود بن علي الطوقي وعرج على التحذير من الفتوى بغير علم وحكم الاستخفاف بالعلماء، وما يؤدي إليه اعتقاد الجاهل بأنه عالم وجواز أن يصف العالم نفسه بالعلم، إذا صح قصده.

وكان عملي في المخطوطة كالتالي:

  • حصلت على نسختين من المخطوطة:

الأولى: من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بمساعدة الأخ حمزة السالمي، حفيد المؤلف جزاه الله خيراً ورمزت لها بالرمز (أ)، وجعلتها أصلاً للمخطوطة، لأنها نسخت في زمن المؤلف، وعرضت على نسخته بحضرته، وتاريخ تسويدها 1317هـ.

والأخرى: من الشيخ أحمد مصلح مدرس في معهد العلوم الشرعية جزاه الله خيراً، ورمزت لها بالرمز (ب)، وهي متأخرة عن النسخة الاولى، وتاريخ تسويدها 1373هـ أي بعد وفاة المؤلف بأكثر من أربعين سنة.

  1. قمت باستنساخ الكتاب بخط واضح وقارنت بين النسختين.
  2. خرّجت الآيات القرآنية من المصحف الشريف.
  3. خرّجت الأحاديث النبوية الشريفة.
  4. قمت بضبط النص قدر المستطاع، وتصحيح الكتاب من الناحية الإملائية والنحوية.
  5. عرّفت بالأعلام الموجودة في الكتاب بخلاف المشهورين كالصحابة رضوان الله عليهم.
  6. قمت ببيان معاني الكلمات الصعبة بالرجوع إلى أمهات المعاجم.
  7. قمت بعمل مقدمة تشتمل على التعريف بالمؤلِّف والمؤلَّف وبيان أهم ما يتصل به.

وقد أعجبني في الكتاب أن الشيخ السالمي أتى بمقالة مسعود بن علي الطوقي في بداية الكتاب بنصها وفصها، والتي انتصر فيها مسعود لابن شيخان، وهذا بخلاف ما يفعله البعض اليوم، من الإتيان بتهم شنيعة دون نسبتها لأصحابها؛ ليحلو لهم الرد والسب والشتم ويخلو ساحتهم أمام القضاء حتى لا يمكن ملاحقتهم قضائيا، فأين من الله يهربون، وعن وعي العقلاء يعزبون.

وقد أغلظ الشيخ السالمي على ابن عمه محمد بن شيخان، واتهمه بأنه ارتكب الفتيا بغير علم، وتعاطى منزلة العلماء، وادعى القول بالرأي، ولم يأت الشيخ السالمي بدليل على هذه التهم ولا بشيء من فتاوى ابن شيخان لنحكم عليها إلا مسألة واحدة هي: مسألة الانتصار التي بينها الشيخ بقوله:    “وذلك أنه وقع في بعض النواحي وبعض البلدان من عمان هذا المرض العام المعروف بالطاعون، فاتفق أهل المضيبي؛ وهي البلدة التي فيها المعترِض وصاحبه على أن يمنعوها وما حولها من البلدان من أن يصل إليها أحد من الناس لا صحيح ولا مريض، وبالغوا في منع ذلك، و أقاموا على الطرق حراساً لئلا يصل إليهم أحد، فكتبت إليهم أن هذا منكر، لا يجوز الاتفاق عليه، وأن فعله حرام، فأجابني صاحب هذا المعترِض بكتاب قال فيه: (فاعلم أخانا أن هذا الأمر اتفقنا عليه جميعا، وكلنا ما بين داخل فيه وراض به، وهو صادر من أهل البلد والمطاوعة، وعندنا أن ذلك جائز لحماية البلد، وحفظ الأجسام من معاداة هذه الأسقام، مع اشتهار هذا الألم بأنه يعدي مع طوفانه بالأمكنة البعيدة التي مقاصدها إلى هذه الديار، وما قطعوا المساعرة لأجل قطع منافع الناس، ولا منعوا طالب الحق، وما حوالي هذه الدار من البلدان كاف في قضاء حوائجهم وإمداد مساعيهم، وفرارهم من ذلك كالفرار من المهالك، والفرار من المجذوم، المأمور به من القضاء والقدر، فما قدّره الله كائن، وما لم يقدره لم يكن، هذا اعتقادنا، والناس أملك بدارهم أن لم تتعين ضرورة الغير إليها، وهذا الألم يمكن كمونه([1]) مع الوافدين الأصحاء وغيرهم، فيصيرون سبباً في انتشاره في البلاد، فإن الشيخ سالم بن خميس رحمه الله وسليمان بن مؤمن سافرا إلى بلدة سرور([2]) وفيها هذا الألم فمات سليمان هنالك، ورجع الشيخ إلى سمد الشأن فمات فيها من الألم، وانتشر فيها، ومات خلق كثير فيها بسببه، فانظر في هذا أخي، فهذا الذي رأيناه واجتهدنا بنظرنا، فإن كنت ترى لنا تعلقاً بهذا فذلك رأينا، وإن تبيّن لنا الصواب في غيره فإنا ندين لله بالتوبة منه، ونتبع الحق حيث كان).

وكلام ابن شيخان يؤيده العلم الحديث، وتعمل به الدول الآن لحصر الوباء ومكافحته، كما حدث مؤخرا مع مرض أيبولا، وكان الشيخ السالمي -وهو بصدد التدليل على خطأ ابن شيخان_ يستند على بعض الأحاديث التي هي أقرب للأساطير والخرافات منها للحقائق العلمية فيقول:

“وأيضاً فإن الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرّحة بأن الطاعون وخز([3]) أعدائنا من الجن، وإذا كان كذلك فهو صريح في أنه ليس من الأمراض التي تكون فيها العدوى، فلا وجه لاستدلالهم بالآية، والحديث المذكورين.

“.ويبدو انفعال الشيخ السالمي كبيرا، حيث سمى كلامه بالحق الواضح ومنكره (أشد طغيانا وأبعد كفرانا) فيقول:

“ثم إنه إن كان الخطأ الذي تشير إليه هو مثل قولي في المسألة التي سميتها الانتصار، فإن ذلك منه كثير، فإني لم أقل فيها إلا الحق الذي نطق به الكتاب والسنة، كما أوضحته فيما تقدم، لكن يكون هذا المعترض بين حالتين، لابد له من إحداهما، إما أن لا يكون يفهم الغلط من الصواب، فيكون فرضه السكوت عما لا يعلم، والتسليم لمن يعلم، وإما أن يكون ممن يميز ذلك فيكون قد سمى الحق الواضح بالغلط، فيكون قد أضله الله على علم، فهو أشد طغياناً وأبعد كفراناً، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.”

إننا بحاجة لمراجعة أقوالنا، وعدم اعتقاد أن الرأي دين، يكفر من خالفه، ولتتسع قلوبنا للمخالف، فإنّ ذلك أدعى للوئام وأصلح للأنام، وتكمن الإشكالية الكبرى في استدعاء الآيات التي نزلت في الكفار والمنافقين لننزلها على إخواننا الذين خالفونا الرأي، كما فعل الشيخ السالمي عندما صدّر كتابه بالآية الكريمة(آالله أذن لكم أم على الله تفترون)، حيث لم يترك هناك مساحة للعذر، ولا مجالا للرجوع، وكم من قول تراه اليوم صائبا، يصبح بعد حين باطلا، إما لأن عقلك توسعت مداركه ونضج، أو لأن العلم كشف زيفه وباطله.

إن ما حدث بين الشيخ السالمي وابن شيخان، يتكرر في أزمنتنا هذه بصورة أشد شراسة، وأغلظ قولا، والمطلوب من الجميع التحلي بالأناة والهدوء، والرد المتزن، ويرفعوا شعار (قولي محتمل للخطأ وقول غيري محتمل للصواب).

حمد بن مبارك الرشيدي

[1] في ب: كونه.

[2] في ب: بلد صور.

[3] الوخز: الطعن بالرمح ونحوه ولا يكون نافذا.

1 تعليقك

  1. " ثم إنه إن كان الخطأ الذي تشير إليه هو مثل قولي في المسألة التي سميتها الانتصار، فإن ذلك منه كثير، فإني لم أقل فيها إلا الحق الذي نطق به الكتاب والسنة، كما أوضحته فيما تقدم، لكن يكون هذا المعترض بين حالتين، لابد له من إحداهما، إما أن لا يكون يفهم الغلط من الصواب، فيكون فرضه السكوت عما لا يعلم، والتسليم لمن يعلم، وإما أن يكون ممن يميز ذلك فيكون قد سمى الحق الواضح بالغلط، فيكون قد أضله الله على علم، فهو أشد طغياناً وأبعد كفراناً، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور "
    **
    حياك الله أستاذ حمد.. ذكر الشيخ السالمي –رحمه الله- في صدر هذا المقطع أن رأيه الذي أدلى به في مسألة (الانتصار) إنما هو ما يتصور أنه (الحق الذي نطق به الكتاب والسنة)، وعليه فإن (الحق الواضح) ليس تسمية إلا لما نطق به الكتاب والسنة، ووصفه هذا: (أشد طغيانا وأبعد كفرانا) وصف لمن خالف هذا المنطوق الواضح.
    وقد تميل نفسي إلى رأي ابن شيخان –بالنظر إلى ما ذكرته من تأييد العلم الحديث لذلك-، لكني لا أملك إلا أن أحترم رأي الشيخ السالمي أيضا، لاعتماده على أحاديث يراها –وهو العلامة المحقق- دالة على خلاف ما فعله ابن شيخان وصاحبه في ذلك الزمان. على أن الفتاوى –وأنت أعلم- بنات سياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي، فربما يكون من العدل أن يحكم عليها بتتبع السياق والظروف التي نشأت فيها ، فربما كان رأي الشيخ السالمي هذا لاعتبارات لم يشأ أن يتطرق إليها، كما لم يشأ أن يستعرض كل فتاوى ابن شيخان التي أنكرها عليه..
    وعليه؛ فإن في عبارتك –أخي الكريم- التي قدمت بها هذا المقطع والعبارة التي علقت بها عليه اتهاما للشيخ السالمي بما لم يدَّعِه، إذ يُفهم منها مجتمعة أنه بانفعاله إنما ينتصر لذاته لا إلى ما يرى أنه الحق، و أن من خالف كلامه هو فقد وقع في دائرة الكفر، وحاشاه عن ذلك.
    ختاما .. أقول إن رأيي ورأيك محتملان للخطأ والصواب، وأستغفر الله لي ولك، والسلام.

Comments are closed.