تحت سلسلة ” ومضات مدنية ” يناقش الباحث أحمد المخيني قضية ” الدولة المدنية والدعوة العملية لنبذ التعصب والتطرف من خلال تمكين الحريات “
من أبلغ الأسباب أثرا في تكوين عقلية التطرف وسلوكيات التعصب غياب الحريات، لا سيما حرية الرأي وحرية التعبير عنه. ومن الأهمية بمكان هنا التأكيد على أن الحرية المطلقة غير ممكنة عمليا كما أن التقييد القاتل للحرية أو تكبيلها غير مجد، ومن نافلة القول الإشارة إلى ضرورة أن تكون الحرية وسطا بين الإطلاق والتكبيل، إلا أن هذه النقطة الوسط لا يمكن أن تحدد من طرف واحد وفق مقصده وحاجاته وتفسيراته أو فكره، كما تخبرنا تواريخ الدول والحضارات، بل ينبغي أن تتوصل الدولة بأطرافها لاسيما مواطنيها ومثقفيها إلى ما يقصد بالنقطة الوسط وما يحفظ توسطها، وإلى معايير التقييد المقبول للحريات الموصلة لهذه النقطة الوسط، على أن تتجسد هذه المعايير وضماناتها في إجراءات واضحة وقوانين عادلة تنبع من قيم وطنية وأخلاقية عليا وصيغت بتشاركية فاعلة حقيقية تم التوافق عليها.
ولا أود أن أكون قاسيا في الحكم، ولكن التجديد أو التغيير، سواء أكان بالجديد من الفكر أو بالمختلف من الرأي، عادة ما يجابه بالرفض حتى قبل تبين صلاحه من فساده؛ وذلك لأنه يفسر أحيانا على أنه موجة عاتية تحاول أن تؤثر على مسار السفينة الماخرة بوتيرة ثابتة، أو أحيانا على أنه استعراض في محاولة جادة للظهور والمنافسة على مشهد القوى المجتمعية أو السياسية سعيا وراء تبوء مكانة ما، أو أحيانا أخرى على أنه تهديد لمصالح اقتصادية لم تستوف بعد مما يتطلب إعادة الحسابات أو لربما على أنه ذئب يلبس صوف حمل متقمصا عقلية المواطن الصالح دون أن يدرك الأخير أنه أضحى أداة ووسيلة.
جميع هذه مردها في تقديري إلى الخوف؛ الخوف من المجهول أو الخوف من المتوقع. وإن كان في الخوف دلالة على الذكاء ومؤشرا لغريزة البقاء، إلا أن الخوف المفرط يؤدي بالإنسان إلى التآكل من القلق والتوجس. والخوف الصحي هو الذي يدفع بالإنسان إلى إظهار مخاوفه ومصادرها والتصدي لها في الفضاء الطلق منعا للمباغتة أو تحوطا لها. إن المتخوفين من التغيير لا يدركون أن التغير سنة بشرية وطبيعتهم المحيطة بهم، ولذا تشجيع التغير أو على الأقل إتاحة الفرصة له هو سر الاستدامة لأنه يجعل المتغيرين أكثر قدرة على مواءمة المتغيرات والمستجدات من حولهم، والتغير هو جوهر الحظ وماهية انتشاره كما ألمح إلى ذلك الفيلسوف الشاعر بوئثيوس حين قال أن “الحظ إذا ثبت على حال لا يعود حظا”.
وعودا إلى ذي بدء، فإن التطرف والتعصب سمتان للمجتمعات التي تدفع بأهليها إلى الاستقطاب بين السائد وبين الجديد أو بين ما اتفق عليه والرؤية المغايرة، وفي رأيي فعلينا ألا نَفْرُقَ من هذين النعتين، فهما نتيجتان طبيعيتان لتزاحم الأفكار وتداخل التيارات خاصة المرتبطة بالهوية أو السمة العامة للمجتمع، ولكن علينا أن نحد من إطلاقهما على أي تغيير أو إبداع أو ابتكار يروم الإصلاح أو المشاركة في البناء بالرأي والتنويه. والسبيل إلى ذلك هي أن ندرك أنه متى ما منعنا الإنسان من التعبير عن رأيه – مهما كان جارحا أو مؤلما أو خطأ – فإننا نكون قد منعنا ذلك الإنسان من فرصة تقليب رأيه وفكرته وحقه في إعمال النظر فيها وخيار التراجع عنها أو تصحيحها أو تصويبها – إن كانت خطأ أو مشوبة بعيب منهجي أو فكري- وبذا ندفعه لا محالة إلى التشبث برأيه عاطفياً وعصبيةً.
النتيجة، أن هذا الإنسان – من منظور الارتباط العاطفي بالفكرة أو بالرأي – سيسعى إلى محاولة التعبير عن ذلكم الرأي أو تلكم الفكرة بأية سبيل أوتي، حتى ولو كانت تلك السبيل محفوفة بالمخاطر أو مخالفة للعرف، فالعقل يتراجع غالبا في هذه المحافل لصالح العاطفة، وذلك ليس عيبا البتة فالأفكار تحتاج إلى جرأة في الطرح وإلا لحبستها العقلانية والمنهجية الجامدة، ولكن ينبغي ألا يدفع هؤلاء ثمن عاطفتهم بؤسا وشقاء وإقصاء.
إن أفكارنا وآراءنا لا تكون حرة بمجرد تكونها في عقولنا وأذهاننا، بل ينبغي أن تخرج إلى النور وتتحول إلى سلوك حتى يتسنى أن نطلق عليها صفة الحرية وحتى نكون أحرارا حقا. وكم منا من عانى لمجرد أنه حبس فكرة أو أمرا يضيق به أو يشل عليه تفكيره، وما إن يعبر عنه أو يبثه لصديق حتى يحس بالراحة وتنقشع الغمامة التي كانت تعيق رؤيته ويستطيع التفكير من جديد.
تلك الفسحة من الحُرية والأمان حَرِيّةٌ بأن تمنع الإنسان من التعصب أو التهور. ولذا فإننا بتوسيع مساحة التعبير عن الرأي وإطلاق الحريات نوجد مساحة تبرز مواطنين متكاملين في رؤيتهم ومسؤلياتهم مع أنظمتهم تجاه بناء الوطن، ونفتح ميدانا رحبا نستطيع عبره أن نسبر أغوار الصيحات الناقدة أو المتظلمة أو المعبرة عن مكنوناتها علها تنبيء بخير عميم بدل التوجس منها أو منعها وكبتها. ومن خلال توسيع مساحة التعبير عن الرأي والسماح للغريب من القول أن يُذكر أو غير المعقول من الفكر أن يُتحدث عنها فإننا نوجد برلمانا مفتوحا وأكاديمية علمية ممتدة بلا انقطاع للإنسان كي يتعلم ويعلم ويدرك مدى جنوحه عن جادة الصواب أو مدى التزامه بالصراط المستقيم. والأهم من ذلك كله فإننا بهذه الفسحة نرفع الإنسان من عبودية الاستهلاك والتلقي إلى مدنية التنمية والعطاء.
* باحث مستقل مهتم بالشئون السياسية وحقوق الإنسان والحوار jicfa@yahoo.com