مانديلا … درس في المواطنة الإنسانية والحرية

غادرنا قبل يومين إنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ودقائق، لكنه لم يمت ولن يموت، لأنه ترك وراءه إرثا هائلا من الدروس والعبر، انصهرت وتمازجت لتشكل نُصبا أخلاقيا وفلسفيا قلما نجد مثله الآن، لا سيما في عوالمنا العربية والإسلامية. رجل بأمة: ذاك هو نيلسون مانديلا.

إن الدرس الأول الذي استوقفني من بين دروسه ، التي ما انبت يعطيها منذ بدء نضاله ، هو استحضار الإنسانية القابعة في كل منا، وجَعْلِها أساسا رئيسا للتعامل لا سيما مع المواطنين في دولة تجاذبتها مصالح وأقطاب مختلفة، وفي ذلك اتساق أو بالأحرى انبثاق من مبدأ الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم، ومقولة الإمام علي (كرم الله وجهه): الخلق صنفان: أخ لك في العقيدة، ونظير لك في الخلق (الإنسانية) ولكل منهما حق، إلا أننا للأسف ضيّعنا وضِعنا. لقد تعلمت من هذا الدرس أن أبحث عن الإنسانية المخزنة في كل من أصدقائي أو أعدائي، حلفائي أو خصومي، بل في كل إنسان تضعة المشيئة في طريقي أو مسيرة حياتي؛ وذلك لأتعلم نزرا من إنسانيته أو لأساعده على استحيائها ، علها تحييني أو تحيي شيئا في ذاته أو في ذاتي، وبذا نتعالق إنسانيا بغض النظر عن مادية الظروف.

في حالة مانديلا، أحسب أن هذا الاستحضار تجسد في سلوكين رئيسين من بين جملة سلوكيات انتظمها طوال حياته. الأول أنه استطاع أن يغفر ويسامح كل من أخطأ، أو أي فرد شارك نظام الفصل العنصري في جرائمه، وأعطاهم جميعا فرصة يكفرون فيها عن أخطائهم، وليشاركوا في بناء النظام الجديد، لأنهم في نهاية الأمر أناس قبل أن يكونوا مواطنين يهمهم شأن هذا الوطن، والإنسان من شأنه الخطأ، وإن لم يعط فرصة للإنابة والعمل من جديد وقع في سحيق الضغينة اللامنتهي.

ومع رقي هذه الخطوة، ولربما يقول البعض ببدهيتها، إلا أن الأمر اللافت في شأن جنوب أفريقيا أن مانديلا لم يقم بذلك بشكل شخصي أو فرداني ، ليتميز به عن غيره أو ليجعل من نفسه أيقونة أسطورية بفعل الأنا، أو ليحمّل الآخرين جميلا يضعه في ربقتهم إلى الأبد، فقد جاء ليحرر مواطنيه من هذه العبودية، بل جعل هذا الغفران والتسامح مؤسسيا وعاما ؛ ليعم الوئام والسلام والتماسك في المجتمع الجديد، الذي لو بقت فيه شراذم صراع الماضي ، لظل متنازعا ومتمزقا، ولما استطاع أن يرتقي درجات التقدم الذي وصل إليه الآن، بفضل الأمان والاستقرار الداخلي اللذين منحاه متانة.

إن تجربة هيئة المصارحة والمصالحة التي استمرت ما لايقل عن 3 سنوات، التقت من خلالها كل ضحية مع المسئ إليها، وتصارحا وصب كل منهما جام غضبه أو ندمه لينفس كل منهما عن المشاعر المكبوتة بأريحية وصراحة ووفق منهجية مدروسة ومنظمة، لإطلاق هذه العواطف المتخمّرة التي كان بإمكانها أن تفجر المجتمع الجنوب أفريقي ، ولتنتهي هذه الجلسات بمصالحة وغفران يفتح فيها الطرفان صفحة جديدة من العلاقة القائمة على الاحترام المتبادل، وليدرك الطرف الضعيف أنه أصبح قويا الآن لضعفه سابقا وبقوة الغفران التي لولاها لربما قضى الطرف الآخر عقوبة تسبقها جلسات محاكمة وتهييج عواطف إن قامت فلن تقعد، وبقوة المصالحة التي لولاها لاعترى مجتمعاتهم المزيد من الشرخ ولقبعوا في أحضان الماضي المتنازع إلى الأبد. وعلى نفس الشاكلة، ليدرك الطرف القوي أنه أضحى ضعيفا الآن لما مارسه من تعسف وظلم في السابق وليكون رادعا له، وليبين له أن الطرف المستضعف استشعر الإنسانية القابعة في نفس كل منهما، وعليه تعامل ، أي وفق هذه الإنسانية الجمعية التي تروم أن تبني مجتمعا وشعبا متصالحا من الداخل، وصولا إلى دولة تستمد سيادتها من شعب متآلف يرى أنه بنى هذه الدولة بتماسكه ورغبته في نسيان الماضي وجعله عتبة يرتقي بها لا عقبة تحيد به عن الطريق.

من نافلة القول أن تجربة جنوب أفريقيا في المصارحة والمصالحة التي قادها نيلسون مانديلا  كانت تجربة رائدة في العصر الحديث، استلهمها هذا القائد الإنسان (بحسب بعض الإشارات من متابعي السيرة الذاتية لمانديلا) من تاريخ النبوة الإنساني، الذي عادة ما يغفله المسلمون متناسين المنظور الإنساني للنبي (عليه أفضل الصلاة والسلام) سواء في المدينة المنورة أو مكة المكرمة. وأزعم أن درس (اذهبوا فأنتم الطلقاء) الذي قدمه النبي الكريم (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله) في فتح مكة يعد علامة فاصلة علينا أن نلتفت إليها في شأن بناء المجتمعات، لاسيما مع ما تبعه من مفهوم (المؤلفة قلوبهم) الذي ساعد في تماسك المجتمع الناشئ وتخطي النزاعات العرقية والقبلية والنزعات الانتقامية الني نشأت بين المظلومين والظالمين.  ومما عمّق الدرس النبوي دلالة فظاعة الثورات التي حدثت في أوروبا في العصر الحديث ، والتي جرت فيها مجازر بشعة لم تفرق بين الناس، وضاع فيها الكثيرمن الأبرياء، واللافت أننا في بلداننا العربية والمسلمة نحذو حذو أوروبا في تجاربها الثورية الفاشلة ونتذكرها عند مراجعة أوضاعنا، بدل أن نهتدي بتجاربنا الأصيلة ، التي استفادت منها النظم في جنوب أفريقيا وغيرها.

أما الأمر الثاني الذي في رأيي جسد استحضار مانديلا للإنسانية الجمعية فهو استطاعته أن ينظر إلى جميع أبناء بلده لاسيما البيض والمسلمين بعين شمولية على أنهم مواطنون، بغض النظر عن عقائدهم وألوانهم وأعراقهم أو أي شيء يميزهم عن غيرهم من المواطنين. لقد جعل الوطن وإعادة بنائه مسؤولية الجميع، ولم يجعلها حكرا على أفراد أو فئات أو حزب، بل الجميع استشعر حجم المسؤولية الملقاة على عواتقهم وعظم الفرصة التاريخية التي وضعت أمامهم ليحيوا وطنا كان قد حكم عليه بالفناء من جراء الفصل العنصري. ومع عدم التساهل بشأن الكفاءة الواجب توافرها في الأشخاص الذين شاركوا في البناء السياسي، وإدارة شؤون البلاد، وتأسيس الديموقراطية الجديد في جنوب أفريقيا، لم يغفل مانديلا عن البعد السياسي للمجموعات المختلفة التي تكون فسيفساء المجتمع الجنوب أفريقي في صراعه إلى الحرية؛ فمن المُدْرَك أن تعيير الأكثرية والأقلية عملية معاملها التأثير لا العدد فقط، بمعنى أننا لا ينبغي أن نطلق لفظ الأقلية على مجموعة فكرية أو عرقية بمجرد أن عددها قليل، لأن وجود قلة من الشعب قد يحوزون على مقومات تميزهم عن غيرهم بشكل لافت تجعلهم مؤثرين ثقافيا أو دينيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، مما يجعلهم أكثرية سياسية ولو لوقت بسيط حتى يتغير الواقع السياسي، وتستجمع الدولة قواها، وتستكمل بناء مؤسساتها هيكليا، وتنشزها ممارسة واقعية برقابة الشعب، دون التفريط بالكفاءة والأمانة.

إن الدرس الثاني الذي أشعله مانديلا نبراسا هو الحرية، فهي في رأيه لا تأتي سهلة ولا منفردة. فمن حيث أنها ليست سهلة، فهي تتطلب جهدا مضنيا، وصبرا طويلا، ومثابرة على الحق، ولا بد في سبيل الحرية أن يعمل الجميع متضافرين لنيلها وتحقيقها وإثباتها، كل في مجاله وبطريقته وما أوتي من وسع، إلا أنه يجب أن تتضح الوجهة للجميع، وأن يتفقوا عليها، فبدون وضوح هذه الوجهة وتوافقهم عليهم قد تذهب جهودهم أدراج الرياح. درب الحرية ليس مفروشا بالورود ولا بالذهب، ولكن بالأشواك والمعاناة.

تبدأ هذه المعاناة داخل كل مناضل؛ ليستجلي الحق في ذاته، وليدرك دوافعه الحقيقية، وذلك ليثبت على طريق النصح والإصلاح. وتملأ طريق الحرية أشواك، كون الحرية لا تستحدث ولا تولد من فراغ، بل تتحول في لحظة “أرخميدِسية” من ثقب أسود يبتلع إلى نجم يشع، وفي هذه اللحظة تزيح الحرية الاستبداد، وتفسح الطريق للممكن الذي كان يعد مستحيلا، وليس بالضرورة أن تحدث هذه اللحظة للجميع في وقت سواء، بل يمكن لكل منا أن تأتي لحظته الأرخميدِسية على حدة، لتتراكم الطاقة المتولدة من هذه اللحظة العرفانية لتحدث أثرها الجمعي، وتتكون الحرية. إلا أن ذلك جميعه لن يتأتى إلا بفعل الإرادة التي لابد وأن تتوطد في داخل متصالح مع ذاته، وعارف لقضيته ، وماض في سيره بلا كلل أو ملل.

ومن حيث أن الحرية ليست مفردة، فهي تترافق مع المسؤولية، فالحرية دون مسؤولية تضحى فوضى عارمة، وتقلب ما استقر من شؤون الناس إلى غابة هوجاء، تضيع ما تحقق، وتحوّل الأصدقاء أعداء، والحلفاء خصوما. وفي هذا الشأن تعلمت أن مسؤولية الحرية تبدأ بالحصول عليها ، فهي مسؤولية كل فرد، لأن حريتي توجد في حرية الآخرين، والعكس صحيح، ففي سلب حرية الآخرين سلب بالضرورة لحريتي، وكما يقال لقد “أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض”.

إلا أن المسؤولية الكبرى المترافقة مع الحرية هي المحافظة عليها سليمة نقية طاهرة لأجل المواطن الإنسان، وتوظيفها فقط من أجل الوطن، وهي مسؤولية لا يستطيع الواحد منا بمفرده القيام بها ، كما تبين لنا من التجارب البشرية ويظهر واضحا في المنهج القرآني، بل هي واجب الجميع، كل حسب وسعه واستطاعته، ولكل على الجميع أن يقوم بدوره، وعلى الإطار القانوني (بما في ذلك القضاء) والتنظيم الإداري أن يسمحا بهذه التشاركية في المسؤولية ، وأن يجعلا الشعب هو الرقيب والحسيب، وأن يستوعبا هذه المسؤولية تمكينا لا تسلطا.

وأقول أن المراقب لتجربة جنوب أفريقيا ، والدول الأفريقية التي تلتها متقدمة بذلك على كثير من دولنا، لا يمكنه إلا أن يتعلم دروسا في النجاحات، وبالمثل الإخفاقات، في التوفيق بين الممارسة المحلية من جهة والتجارب البشرية من جهة أخرى، لاستنباط حلول منبثقة من أرض الواقع تتماشى مع المجتمع وتوقعاته. ولنا أن ننظر على سبيل المثال في ما يتعلق بحرية الصحافة والإعلام المترافقة بإصدار قوانين تحد من الشتم والقدح والسباب والتشفي أو الإثارة الإعلامية وتنظمها، وفي نفس الوقت إصدار قوانين تقوي حرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي بحرية المعلومات والوصول إليها. ولنا أن ننظر أيضا إلى ما يتعلق بمكافحة الفساد، وما يتعلق بها من تمتين البعد الرقابي للمجالس التشريعية وغيرها من المؤسسات ذات الصلة، وتحميل المخالفين المسؤولية ومعاقبتهم مهما علا شأنهم أو ذاع صيتهم أو ارتقت درجاتهم الوظيفية، لما في ذلك من أثر على إخراج النظم والقوانين من حيز النظر إلى حيز العمل. كل ذلك ارتكز أساسا على أن الوطن للمواطنين؛ فهم خزين السيادة ومنهم وبهم ولأجلهم يتم التفويض، وهو أمر بالغ في الأهمية علينا استيعابه والتقرير بشأن اعتناقه إن نحن شئنا أن نلحق الركب.

حتى درس مسؤولية الحرية عند نيلسون مانديلا لم يخل من بعد إنساني، فهو لم يفتأ يراقب (الأنا الداخلية) حتى لا تكون دافعا لانحرافه عن النهج والوجهة.  لو أراد نيلسون مانديلا أن يكون رئيسا لجنوب أفريقيا طول حياته لكان بإمكانه ذلك، بل كانت هناك أطروحات كثيرةتصب في هذا الجانب، لكنه آلى كبح جماح الأنا والخروج من مسرح الأحداث ؛ وذلك حتى لا تختزل جنوب أفريقيا في شخص ، لا سيما في مرحلة البناء الحرجة، بل أعادة الدفة إلى الشعب وجعلهم يتعلمون مسؤولية الحرية التي أرادوها، وأن يختاروا بمسؤولية من يريدون، وأن يحاسبوا من يختارونه، وأن يعزلوا من يختارونه دون مانع أدبي أو تاريخي أو رومانسي.  لقد أدرك مانديلا أن خروجه من الساحة ، وأن يظل مراقبا عن بعد دون تدخل هو الطريق المثلى لكي يتعلم شعبه كيف يدير أموره ، وكيف يبني مدنيته ، وكيف ينظم دولته الحديثة ويقوي مؤسساتها (لا أفرادها) ليضمن استدامتها. وبذا كان نيلسون مانديلا أسطورة، وكذا سيبقى علما في تاريخ الأخلاق والسياسة: الإنسان الذي بنى دولة.

* باحث مستقل مهتم بالشؤون السياسية وحقوق الإنسان والحوار

2 تعليقات

  1. الأستاذ أحمد المخينى ..مقال جميل بدون شك ..فى إعتقادى أيضاً أن أهم المحطات التى شكلت شخصية مانديلا هى تجربة السجن لمدة تقارب خمسة وعشرون عاماً ….لقد دخل مانديلا السجن شاباً ممتلىء بالحماس وخرج منه كهلاً وهى تجربة كفيلة بأن تجود التأمل داخل النفس وفى تصرفات البشر وفى الكون ككل وأن تغير من نظرة الأنسان لأى أمر ورؤيته دون تأثيرات خارجية على حقيقته …لذلك خرج مانديلا من تلك التجربة مثلما يخرج الذهب من النار بعد صهره يحمل فيضاً من الأفكار والدعوات للتعايش السلمى التى لم يألفها الناس إلآ عند الرسل

  2. نظرة عميقة أستاذي، وهي بحق سبب محوري في تشكيل شخصيته المتسعة والرحبة، وهذا شأن العديد من العظماء الذين رفضتهم مجتمعاتهم المحلية ليصبحوا أيقونات بشرية فيما بعد

Comments are closed.