قراءة مدنية في قرار “الدنجو” وتداعياته.
على مدار الأسبوعين الماضيين ، وبينما كنت في إجازة متنقلا بين ربوع السلطنة الحبيبة ودولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقية، تابعت عن كثب تطورات ردة الفعل الشعبية العارمة حول ما تم التعارف عليه بقرار الدنجو، وما تبعه من مناوشات لاسيما مع جيت-ريل، والشكر في هذا لوسائط التواصل الاجتماعي على ذلك؛ التي فتحت آفاقا جديدة للتعبير عن الرأي ونقل الفكرة الفردية إلى المستوى الجمعي. ومما لفت نظري حقيقة وأعجبني حقا سرعة تجاوب المجتمع العماني – لا سيما الشباب بمختلف توجهاته الفكرية – مع التغريدات والتعليقات على صفحات الفيسبوك والمداخلات على قنوات اليوتيوب، وكنت أخشى أن تنال يد الرقيب هذه الوسائط، كما حدث في تركيا وغيرها من الدول، ولكن بحمد الله ورفقه فطن الرقيب العماني إلى مثالب مثل هكذا خطوات ، وأنها لن تزيد النار إلا اشتعالا.
وكمواطن عماني مراقب للمجتمع المدني وتطوراته، فمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أمرين رئيسين. الأمر الأول: ما قدمته حادثة قرار الدنجو من تجسدات للمجتمع المدني ، من حيث جمعية هدفه وفردانية أعضائه، لا سيما الشباب الممارس لمواطنته وحقه في التعبير عن رأيه بشكل سلمي، سواء من منظور حقوقي عال أو من منظور واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو من منظور مدني سياسي تشاركي صرف. وفي هذا جواب واضح على إنسانية المجتمع المدني وأصله المرتبط وجودا بالإنسان المدني الطبع وتعدد أشكاله وضرورة تنميتها وإتاحة المجال لتطورها، وفي ذلك بيان جلي على نضج الوعي السياسي لفئة الشباب الذين لم يقبلوا الانبطاح لقرار صادر من “الحكومة” بل عاشوا مواطنتهم المسؤولة حقا وواجبا، وفي هذا كله تأكيد مرة أخرى على قدرة الشعب العماني العظيم على التجاوب ليس مع أحداث كارثية طبيعية كالأنواء المناخية فحسب بل أيضا مع أحداث كارثية سياسية ومجتمعية ، مثل قرار الدنجو.
والأمر الثاني: محورية المجتمع المدني في التعبير عن وجهة نظر المواطن العماني – الذي يمثل هدف التنمية ووسيلتها من وجهة نظر النطق السامي لسلطان البلاد والخطط الخمسية التنموية على مدار الأربع والأربعين عاما – وبالمثل دور المجتمع المدني في تحريك الساكن وتغيير الصورة المرتسمة انطباعا عن انبطاح الشارع العماني ، وتوضيح آثار القرارات التي تتخذها الجهات المختلفة في البلاد ، دون تروٍّ أو تمحيص. ومما يستحق التقدير والإشادة نهضة مجلس الشورى وتجاوبه مع هذا الحراك الشعبي العارم، وهبّته لتناول هذا الموضوع وطرحه بشكل سريع أمام صاحب الجلالة سلطان البلاد المعظم، كونه النقطة المرجعية العليا بين السلطات الثلاث في البلاد. إن هذا في رأيي يستدعي مراجعة جديدة للإطار القانوني والفكري السائد والبنى الأساسية للعمل المدني في السلطنة، فمن الحيوي جدا أن مؤسسات المجتمع المدني تتكون من مثل هذه الظروف والمناسبات لتقوم بالرصد والتوعية ورفد الاجتهاد الرسمي للدولة سواء من قبل السلطة التمثيلية أو التنفيذية أو القضائية، وبشكل يتواكب مع الحاجات المجتمعية الناشئة.
وجاء تجاوب سلطان البلاد كما عهدناه نابعا من حكمة عميقة، ومتوائما مع حرصه الشديد المعروف على اللحمة الشعبية التي بناها ويريد لها الاستمرار. لكن الحادثة برمتها تثير جملة من التساؤلات والاستفسارات، تبحث عن أجوبة، وقد لا تجدها. ماذا كان يقصد مجلس الوزراء بقراره هذا؟ هل كان على وعي بما أحدثه من شرخ في العلاقة بينه (كحكومة) والمواطن؟ هل رأى في قرار الدنجو قرارا منطقيا؟
لماذا تدخّلَ السلطان؟ هل كان مدفوعا بتوصية مجلس الشورى فقط؟ أم أن هناك أسباب أخرى خفية نحن لانعلمها؟ هل جاء قراره هذا بصفته رئيسا للبلاد، أم رئيسا لمجلس الوزراء، أم رئيسا لمجلس عمان (السلطة التشريعية في حالته هو فقط) فهذا غير واضح تماما؟ بمعنى هل كان تدخّله ذاتيا أم مؤسسيا؟
إن كانت الصفة الأخيرة هي المقصودة كما يراها البعض نظرا لإشارته إلى توصية مجلس الشورى (المجلس التمثيلي)، فهل يعني ذلك أن مجلس الشورى أضحى بحق رقيبا على مجلس الوزراء كما ينبغي؟ وهل يملك مجلس الشورى أو مجلس عمان دستوريا حق نقض أو تأجيل قرارات مجلس الوزراء؟ هل الإشارة إلى مجلس الشورى في البيان محض صدفة؟ أم أنها تعضيد لموقف مجلس الشورى على صعيد الرصيد الشعبي، لاسيما وأن السجال بينه وبين مجلس الوزراء لم ينته، وأن التداخل بينه وبين المجالس البلدية ما يزال محتدما، وأن انتخابات مجلس الشورى قادمة بعد عام من الآن؟ هل يعني هذا أنه من الآن فصاعدا علينا كمواطنين عمانيين أن نعمل بشكل مكثف في حراكنا المدني مع مجلس الشورى؟ هل سيصبح البوابة المثالية لسلطان البلاد في الشأن العام؟
لماذا جاء نص التدخل بالتأجيل وليس بالتعطيل أو الإلغاء؟ هل هذا من وحي توصية مجلس الشورى، أم أنه حل وسط لحفظ ماء وجه مجلس الوزراء؟ ماذا لو لم يكن السلطان قابوس موجودا – حفظه الله وأبقاه-؟ فاللجوء إليه كان مدفوعا بإدراك الجميع لمدى حب السلطان لشعبه وارتباط حياته بهم وبالدولة العمانية الحديثة.
ماذا لو شاء جلالة السلطان المعظم ألا يتدخل حتى يترك لأمور الدولة والمؤسسات مجراها لتثبت جدواها أو فاعليتها ولتبين الخطأ أو موضع الخلل فيها ليقوم بتصحيحها؟ ماذا لو أن “قرار الدنجو” جاء بعد وفاة السلطان – حفظه الله وأبقاه – وكان السلطان الذي خَلَفَه غير آبه أو حريص على الشعب كما صاحب الجلالة أو أنه برتبط بمصالح تجارية كبرى مع الغير؟
كل هذه الأسئلة وغيرها من الاستفسارات التي تبحث عن جواب هي مهمة في طرحها قبل الإجابة عليها، التي قد تستغرق مساحة من النقاش والمداولة واختلاف وجهات النظر، وأهميتها تنبع من أنها تشير إلى فجوة مؤسسية في العلاقة بين المراكز والمؤسسات الدستورية المنصوص عليها في النظام الأساسي للدولة، وبهي بذلك تدعو إلى مراجعة النظام الأساسي للدولة من جديد، وتطالب حثيثا بإيجاد آليات مؤسسية أو قانونية واضحة ودقيقة للتعامل مع مثل هذه المواقف، ولتوضيح ميكانيزمات الرقابة المتبادلة ، ولتمكين العمل المدني من مهمته في الدولة الحديثة ، ولتبيين صلاحيات التدخل السريع للوفاء بالمصالح العليا للوطن والمواطنين، ولاستجلاء مجالات وصفات الطعن في دستورية مثل هذه القرارات ، أو التظلم من آثارها.
إن ماقدمه تجاوب المقام السامي مع طلبات الشارع العماني الإلكتروني كان أكبر من تأجيل قرار اتخذه مجلس الوزراء، فقد كان تجديدا للثقة بينه وبين الشعب، ولكن الأهم من ذلك أنه أوضح كما أسلفت ما علينا الالتفات إليه في المراحل القادمة من عمر النهضة العمانية، وللشد على أيدي العمانيين المخلصين الذين يعملون مدنيا لتبيان مواضع الخلل.
إن العاملين في الحراك المدني لا يرمون إلا إلى تقديم جهد بديل أو مرادف بقصد صلاح المجتمع ودرء المفاسد وتحقيق العدل، ويبغون من ذلك كله تقييد السلطة التنفيذية في إدارة شؤون الدولة، وأن يعيشوا مواطنين أحرارا، فهم ممثلون في السلطة التمثيلية وعليهم أن يثقوا في السلطة القضائية فهي صمام الأمان. ومثلما شاهدنا في حراك “الدنجو”، فلقد عمل الشباب العماني من الجنسين بجميع أطيافه على توضيح الظلم الناشئ من قرار الدنجو وتبعاته، وتقديم السبب المعذر لأية مخاطر قادمة، حاديهم في ذلك كله المصلحة العليا للوطن، وعدم الوقوع كفريسة سهلة في براثن تعاقد المصالح التجارية والسياسية. وبطبيعة الحال وكما هي النفس الإنسانية في كثير من الظروف، سيتم توظيف هذا الحراك لمصالح بعض أطراف المشهد السياسي في السلطنة وعناصره.
ولذا يجب على الشباب العماني أن يستمر في مراقبته وجهده وتطوير قدراته فيما يتعلق بمهارات حشد التأييد، فالتحديات القادمة أعظم بطبيعة الحال، وعلى الحكومة أن تيسر لهؤلاء الشباب حراكهم هذا فهو في صالح البلاد.
وأخيرا، هناك جانب مظلم يتساءل.. إلى أي مدى كانت هذه الأحداث وتداعياتها مسرحية سياسية؟ ومع مشروعية السؤال الذي طرح علي – فهو حق لمن يطرحه – إلا أنني تركته جانبا لسببين اثنين: (1) لأن المؤامرات أو المسرحيات السياسية أمر طبيعي في المحافل السياسية ومعتركات الصراع على السلطة الناعمة، و(2) لأني أرى أن العبرة بالنتائج وبما حصل على أرض الواقع، وهذه الحادثة إن كانت مؤامرة ولكنها أدت إلى تقوية اللحمة الوطنية، وإلى تأصير العلاقة بين الشعب وقائده وتجديد رصيد الولاء له لدى العامة من صغير وكبير، وإلى تكوين انطباع لدى المجتمع بأنه قادر وقوي على صد الظلم، فمرحبا بمثل هذه المؤمرات، ولكنها درب مليئة بالألغام.
أحمد بن علي بن محمد المخيني*
باحث مستقل مهتم بالشئون السياسية وحقوق الإنسان والحوار jicfa@yahoo.com