لا أدري ما سبب كمِ السرقات الأدبية التي وقفت عليها،أو على منتقديها في الأسبوع المنصرم،لعله قانون الجذب الذي يطلقه أصحاب البرمجة على كل ما تفكر به، ويملأ وجدانك. ولعل أول من فجر هذا السيل الجذبي من السرقات: هو مقال الاستاذ أحمد المعيني الذي وصم فيه طالبا في الجامعة بالسرقة من غيره لينتحل تلك المقالات التي لا تناسب سنه ولا مدى تفكيره.
والسرقة الأدبية أمر شائع قديما وحديثا، أو بالأصح التهمة بها. فالكاتب الأمريكي جورج جيمس في كتابه (التراث المسروق) يتهم أرسطو بالسرقة؛ حيث نسب إلى نفسه ما دبجه المصريون القدماء، بعد أن نهب الإسكندر الأكبر ثروات مصر المادية والفكرية، وأغار الشعراء على إبداعات بعضهم البعض، ولذلك اشتغل العرب قديما بموضوع السرقات بين شعراء رأوا بأن السرقة أمر لا مفر منه.
بحسبان أنه لا يوجد قول لم يقل، ولا فكرة لم تشبع وصفا وسبكا، كما قال عنترة: هل غادر الشعراء من متردم. وبعده كعب بن زهير: ما أرانا نقول إلا رجيعا ….. ومعادا من قولنا مكرورا
وبين نقاد قضوا حياتهم في تتبع هذه السرقات وإرجاع القول إلى قائله البك، وبين أدباء حاولوا أن يعلموا الشاعر كيف يسرق دون أن يِفطن لسرقته. كابن طباطبا في كتابه عيار الشعر حيث يقول (وإذا تناول الشاعر المعاني التي قد سُبق إليها ،فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يُعب بل وجب له فضل لطفه وإحسانه فيه…
ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى إلطاف الحيلة وتدقيق النظر في تناول المعاني واستعارتها وتلبيسها حتى تخفى على نقادها والبصراء بها وينفرد بشهرتها كأنه غير مسبوق إليها) فابن طباطبا يشير إلى سرقة الفكرة، ويحذر الشاعر من سرقة اللفظ أو حتى سرقة الفكرة بشكل مباشر بل عليه أن يأخذ الفكرة من قصيدة المدح فيجعلها في قصيدة الرثاء مثلا حتى لا يكتشف أمره وهو في ذلك يرى بمنطق الأديب أن الشاعر ليس بيده حيلة فإما أن يصمت وإما أن ينزو على المعاني السابقة، فيكسوها بشرف اللفظ وجودة السبك والماء الرائق على حد تعبير الجاحظ. وتلك قضية أخرى خاض فيها القدماء بين من يرى الشرف لَلفظ ومن يراه للمعنى ولا نريد أن نخوض معهم فيها.
وكانت السرقات الفجة – بلا شك قديما وحديثا – هي الإغارة على اللفظ والمعنى معا وأحيانا تكون تلك السرقة دون علم المسروق وأحيانا تكون غصبا.وقد تعجبون كيف تكون السرقة غصبا؛ إلا أن الأدب يحدثنا مثلا عن بيت سمعه الفرزدق قاله الشمردل، فهدده الفرزدق بين أن يدعه له أو يدع عرضه؛ أي هدده بالهجاء المر وهذا البيت هو:
فما بين من لم يعط سمعا وطاعة….. وبين تميم غير حز الغلاصم
وقد ينسب السيد إبداع مولاه له، أوالدكتور إبداع تلميذه له، وكلها تمارس بإلاكراه بأنواعه المختلفة. إلا أننا يجب أن لا نعتذر للسراق مهما خفيت أساليبهم، ولا نردد قول جوليا كريستيفا –التي تتنازع هي وباختين مفهوم التناص: (أن النص هو انتاج لنصوص سابقة).
نعم الكاتب وهو يقرأ تتكون لديه في عقله الباطن والظاهر نصوص عديدة يعيد انتاجها من حيث لا يشعر في قالب جديد ،لكن مهما جاءته التماعة فكر وومضة تذكر أن هذا القول وتلك الفكرة لغيره فعليه أن يرجع الفضل لأصحابه والحق إلى نصابه ،ولستُ مع من يقول بأنه ليس هناك أفضل مما قيل فإن تتبع تاريخ السرقات يحيلنا إلى أفكار فيها الجدة والنضارة ،تم انتاجها وتمت سرقتها في عصور مختلفة متوالية ،مما يدل على أن سيل الأفكار الهادر لا يتوقف وليس حكرا على عصر دون عصر، وكما قال المعري:وإني وإن كنت الأخير زمانه &لآت بما لم تستطعه الأوائل،
إن شبح السرقات الفكرية والاتهام بها صار شبحا، يلاحق كل مبدع حتى من كان رائدا أو لقب بالأب لعلم من العلوم- باعتباره من افترع أبكاره وأينعت بسببه ثماره -كابن خلدون (أبو علم الاجتماع) الذي اتهمه عبدالرحمن بدوي بسرقة مقدمته من إخوان الصفا مرورا بأمير الشعراء شوقي الذي اتهمه صاحبي الديوان بالسرقة وليس انتهاء بأدونيس الذي كتب فيه كاظم جهاد (أدونيس منتحلا).
واليوم انفتحت أبواب السرقات على مصراعيها وصارت الشهادات لا تزور فقط وإلا لسهل كشفها ولكن رسائل الماجستير والدكتوراة باتت تكتب في محلات متخصصة ثم يأتي مشتريها حاملا تلك الدرجات العلمية التي يصدق عليه ما قاله أحد المفتين لسائل جاءه يحمل شهادته في يده يسأله يا شيخ:ما شهادة الزور؟ قال:تلك التي تحملها!
ويكفي أن يكون لديك بلاغة في القول ونباهة في العقل لتغير كما تشاء على تراث غيرك نهبا وسلبا، بعد أن صار الحياء من سقط المتاع، لقد وجدت مرة مسؤولا على رغم ثقل المسؤولية، وزحمة العمل الموكل إليه يحمل شهادتي دكتوراة وأخبرني أنه يفكر في الثالثة ولو لاقى هذا نصبا في الكتابة وتعبا في البحث لما طمع في أكثر من واحدة.
والمصيبة أن وزارة التعليم العالي لا تراقب وضع كثير من الأكاديميين في جامعاتنا ولا تعمل لهم اختبارات تحديد مستوى وإنما تباح لهم عقول الطلاب لينشروا بينهم صناعة الوهم والجهل ،ليت هذه الوزارة تقتدي بوزارة الصحة التي تعمل اختبارات للأطباء قبل أن تسلمهم أجساد المرضى ولكن العقول صارت أهون بكثير من الأجساد وحضارتنا ينبغي أن تنتقل من مرحلة العمران إلى الرقي بالإنسان فما فائدة الصروح المشيدة إن لم تجد عقولا تديرها وتطورها.
ولا أخفيكم أننا في حالة من السقوط الحضاري المزري، بسبب التربية العقيمة التي تحثك على الازدواجية بين ضميرك ومجتمعك، فالضمير الميت يفعل ما يشاء بعيدا عن الأعين، بل صار الطالب يُربى في المدارس على القص واللصق لبحوثه، ويُعطى درجات على ذلك. ثم نتبجح بالأمانة العلمية التي كنا نميتها كل يوم في نفس ذلك الطالب.
لماذا لا نطلب من الطالب تلخيص كتاب معين بدل أن نطلب منه معلومة يبحث عنها في النت، وينسخها بالبرنت ،ولكم أعجبتني تلكم الطالبة العمانية التي شاركت في برنامج( كتاب أعجبني)، وقد قرأت في السنة الماضية أكثر من مائة كتاب وهي لم تتعد سن الرابعة عشر والسبب أنها درست في إحدى الدول الأوربية فكان يطلب منها تلخيص كتابين أسبوعيا؛ حتى انغرس فيها حب الكتاب.
إن الواجب علينا إذن أن نغرس حب الكتاب أولا في نفوس النشء ونرمي في أنفسهم بذور الأمانة لكي تكبر أشجارها وتينع ثمارها كلما كبروا فيصبحوا مبدعين لا مغيرين.
حمد مبارك الرشيدي