هو الموت إذن يا علي!
لكنها حتماً ليست النهاية.
نعم ليست النهاية. وأي نهاية تلك التي يمكن أن نتخيلها للغيم، لانسياب الماء من نبعه الجبلي العذب، للنخيل وهي ترقص فرحاً بعذوقها المكتنزة لذةً وأملاً بخير مستمر.
أي نهاية يمكن أن تُدركها عقولنا لفكرة الفلج واهب الحياة وباعث الخصب. وأي نهاية تحاول أن تتحسسها قلوبنا لغياب نخلة ضواحينا وبساتيننا وعوابينا التي تؤنس وحشة أشد الجبال وعورة. وأي نهاية تستطيع الوقوف أمام غيمة أجذلها عشق احتضان الأرض وتقبيل أديمها بالمزن.
يا علي أنت غيمتنا الحليمة، ونخلتنا الأكيدة، وفلجنا الكريم. لذلك ستبقى في الروح قبل الذاكرة، وستراقص الغياب لتؤكد لنا الحضور.
قد تغادرنا غيمتنا الوحيدة لكنها لن تَغدُر بنا
وقد تظمأ نخلتنا الجليلة لكنها لن تبخل علينا
وقد تَمْحل أفلاجنا المديدة لكنها لن تغور عنا
لأنها تُدرِك قيمتها في إنسان هذه الأرض، ولأن هذا الإنسان يبادلها التعلق والوجد والتوله. تعلق الوليد، ووجد المُريد، وتوله العاشق.
ولأنك سليل هذا الثلاثي العظيم: غيمة ونخلة وفلج؛ فستبقى بيننا.
سيبقى حُلمك الذي مارسته بلا مقابل ما بقيت غيمة تحلق فوق رؤوسنا.
وسيبقى صبرك الذي قُدّ من صخر الألم ما بقيت نخلة مجدولة بجبال حَجَرِنا المهيب.
وستبقى شجاعتك التي بثثتها في أوصالنا، في سواقينا وأفلاجنا ما بقيت ريانة بالماء شاهدةً على العطاء.
السموحة منك أيها الصديق العزيز
يبدو أني وقعت في فخ العزاء من الفقد، الذي لا يمكن لابن انثى وإن طالت سلامته إلا ويستسلم له.
جبل على قلبي، وطائر يتيم يُغني للقمر.
لكنني، إلى هذه اللحظة على الأقل، ما زلت أؤمن أنك عصي على الغياب يا علي.
الغياب يطوي: النكرات، ذرات الغبار الصغيرة على روازن مجالسنا المهجورة، أوراق الشجر المتساقط في أوديتنا السحيقة وسيوحنا الشاسعة، ويطوي كذلك الفاسدين واللصوص والأوغاد، ويطوي فأراً سرق من مطبخ أيتام سماً خاله طعاماً، ويطوي وزيراً “رصف الشارع فأطاح به الشارع”، ويطوي دكاكين هواتف باعت الوهم للفقراء، وتاجرت بكلام المحبين والعشاق.
ويطوي خازناً للمال العام أكل منه حتى غُصّ به، ويطوي جنرالات عذبوا البشر ولاحقوا حتى حركة الدماء في الشريان. ويطوي الغياب أيضاً: أرقاماً كالرمال رُدمت بها مدارج طائراتنا، ويطوي تجار طائرات خارجة من الخدمة أَثْروَا من نوم البلاد واستغفال العباد، ويطوي باعة شواطئنا وحدائق ألعاب أطفالنا، ويطوي أصحاب منتديات الكترونية توهّموا أن الوطن مؤسسة يسهل تسويقها والتكسب من ورائها، ويطوي الشوفينيين بعرقهم وأصلهم ووظائفهم وأرصدتهم وكُتبهم وضجيجهم.
ويطوي المخبرين وزوار الليل والمحققين في أول ساعات الفجر، والحارس المقنع الذي يقف أمام زنزانة “التعليمات” سيطويه الغياب، ويطوي كذلك” المثقف” المُخاتل السائر على حبل “سيرك” التوازنات، ومن الباب الواسع للغياب سيُطوى الوطن الهش والإنسان المُستَعبد لذات الأساسيات التي تكفي نملة كسولة في أقاصي صحرائنا الحاضنة للعفة والأنفة والكبرياء.
أما أنت فلا أعتقد أن للغياب شُغلاً معك. كيف سيطويك الغياب؟! كيف سيطوي هذا الغياب: ريادتك في فكرة غريبة ومخيفة وكاشفة ومعرّية كفكرة التدوين الالكتروني يوم كان القوم يخافون الهمس بالإصلاح. كيف سيطوي حلمك وصبرك وأنت تناقش وتعرض وتُشرِف وتَرُّد على كل سؤال يقصفك به مجهول قادم من فضاء المنتديات المفتوح على الأحلام والآمال والشتائم أيضاً. وكيف لهذا الغياب أن يطوي بالك الواسع وإضافاتك العميقة التي أنرت بها ليالينا الطويلة والمُرهقة في سبيل ميلاد فكرة سوية وحلمٍ أخضر لكيان مدني مستقل يكون ملاذً مُحصّناً للكتاب والأدباء والمُشتغلين على الكلمة من خرسانات التبعية ومتواليات الولاء والتدجين واللون الواحد.
كيف سيطوي الغياب وقفتك في قفص الاتهام وأنت خصمٌ لمجلس الوزراء بقوته وصولجانه، ترد على القاضي بصوتك الهادئ: “نعم نشرتُ ما نشرتُه لكي لا يُستغفل الناس أكثر من ذلك ولكي لا يُصادر حق الكلام في هذي البلاد”.
وكيف سيطوي الغياب ندوة “الكلمة بين فضاءات الحرية وحدود المساءلة” التي كُنتَ أنت محورها ومُشعِل فتيلها للإضاءة على العتمات القادمة. وما الذي سيفعله الغياب مع كل طائرة سبَقْتنا لفحصها وتقييمها وترخيصها لتحملنا إلى احتمالات طموحاتنا وشهواتنا وأفراحنا ومجهولنا اللذيذ.
وكيف لهذا الغياب أن يمارس عادته في طي السجلات ونبوءاتك وتوقعاتك وقراءاتك الصبورة الصادقة المزخرفة بالأرقام والحقائق قد سبقت أحداث 2011 بعشر سنوات، على الأقل، دون أن تُثنيك عن ذلك: لا أشباح الاستهزاء المتناسلة، ولا الحروب الكلامية المضادة، ولا التخوين، ولا التحقيقات ولا الاستدعاءات ولا الاستقصادات التي نالتك في بيتك وعملك ومحيطك الاجتماعي.
وكيف سيطويك الغياب يا علي وأنت خير وأنبل وأدق من وثق ونقل المحاكمات التي نُصبت لأولئك الذين ساروا على طريقك الوعر في تأكيد حق التعبير وحق التجمع السلمي وحق النشر وحق المعلومة وحق الشراكة وحق الحلم بوطن للجميع.
كيف سيطويك الغياب وقلبك كان واسعاً كبحر، رقراقاً صافياً كنهر!.
آآآه من قلبك يا علي، وآااه على قلبك الذي منه كان مُصابنا جميعاً.
لكن ما الغرابة في ذلك!.
إن ما حدث لك أو حدث لقلبك مؤخراً يؤكد المؤكد أصلاً. ويسكب على أوجاعنا قطران الحقيقة الصلد، ذات المصير الذي نفرُّ منه إليه: القلوب العامرة بالخير ليست كالقلوب الخَرِبة لذا نقضي على الأولى سريعاً وتقضي علينا الثانية ببطئ.
هذا القلب الذي عاش مسكوناً بالإنسان، مهموماً بالكرامة والعزة اللتين يستحقهما من يعيش على هذه الأرض؛ هذا القلب المُعذَّب لأجل المحرومين والمظلومين لن يتوقف بسبب زيادة مناسيب الدهون، ولا بتيه مبضع خاطئ لطبيب فاشل، ولا بحادث عبثي لسيارة شاردة أو طائرة مخطوفة. لا، لا أعتقد ذلك.
قلب كقلبك يا صديقي توقف فجأة كما هو حريٌ بقلب إنسان، وكما هو جدير بمؤمن آمن بالمبادئ فوق المصالح، بالمواقف فوق المنافع. قلبك، يا صديقي، طفح انشغالاً بقضايا الناس، بإشكالاتنا المُهَمَلة وحرماناتنا الأساسية، أنهكه بحثك الدؤوب عن المعاني الأرضية للعدل والحرية والمساواة. قلبك فاض بالأسئلة المحيرة التي كانت تَشغلُك، تُشعلك، تبثها بلا كلل، وعن إصرار بلا ملل، عبر حواراتك ولقاءاتك الفعلية منها والافتراضية: “متى نصل إلى الوعي الآمن الذي لا يستغفلنا فيه أحد؟ شوف العالم وين واصلة؟! كيف تعي الناس حقوقها؟ متى تنتهي فضايح الفساد في بلادنا؟ لماذا لا يحترم أهل السلطة المواطنين؟ أين العدالة؟ لماذا لا نتعلم من دروس غيرنا؟ ليش نكرر نفس الاخطاء؟ وغيرها الكثير الكثير من الاسئلة والأمثلة والأحلام يا علي.
قلبك الذي أرهقه السهر بانتظار النهار الذي يكشف الفاسد ويحاسب المستهتر بمصائر المساكين والغافلين.
قلبك الذي حمل همومنا المبثوثة في سواحلنا وصحارينا وسيوحنا وجبالنا وفرصنا المُفوتة وطاقتنا المهدورة؛ هذا القلب آن له أن يرتاح الآن.
وآن لروضتك الغالية أن تفخر بك، ويفخر بك أخوتها وأمها ونحن معهم.
وآن لك أن تُنبِّت نخلتك العزيزة ليخصُب الحلم وتنبُت وردة على كتف الجفاف والجفاء والإهمال، ولتستمر الحياة.
وآن لطائرك الذي أضناه السفر وهتّكته المقارنات أن ينام ويوسِّد رأسه الحنان.
وآن لك أن تجدد ميلادك بالاستحمام في فلج دارس الذي رأيناها متجسداً فيك؛ غزارة ودفقاً وديمومة.
وآن لقلبك أن يحضن غيمته العزيزة ويمطرنا كلما جفت أراضينا ومآقينا حباً وحلما وصبراً وشجاعة.
السلام لك يا علي والسلام عليك.
مُحبك
سعيد سلطان الهاشمي
كاتب عُماني