طفولة الأفكار

كثيرا ما يبرز هذا السؤال المزعج والمؤرق، والقديم الجديد: “ما سر تخلف أمة العرب والمسلمين؟”. وهو سؤال كتب فيه الكثير. ولا نريد هنا أن نطرق ما طرقه المفكرون من تشخيص للحالة المتردية التي أصابتنا. أو التي جعلتنا وما زلنا في ذيل الأمم برغم كل ما يتوافر لدينا من ثروات ومقدرات.  ولربما تساءل الكثيرون لماذا انتشر لدينا الإرهاب وصدرناه للعالم؟ ولماذا نذهب لبلاد الغرب دارسين أو سائحين ثم نرجع ولم نتأثر بضجيج الأفكار المواراة هناك ؟

لابد أن هناك خللا ينبغي كشفه وخطأ ينبغي تداركه ومعضلة ينبغي حلها. فلماذا مثلا يذهب طالب متفوق ليدرس الدكتوراة في أرقى جامعات الغرب ثم يرجع وهالات الاحتفاء تحيط به ثم لا يلبث أن يقدم على جريمة قتل كان سببها طلب الثأر؟ ولماذا يذهب كثير من المتدينين للغرب ويرجعون وهم أشد انغلاقا في عقولهم وأكثر كراهية للآخر؟

إن علينا ونحن نشخص أمثال هذه الحالات ،أن نرجع إلى ذلك الطفل الذي يبدو أنه لم يكبر بداخلنا كما يقول بوياك(الكبار أطفال بأحجام كبيرة) ،ترى لماذا هذا الانسداد الانساني الذي يتمثل في العداء للآخر وحمل الحقد الدفين لمن يخالفنا فكرا؟ لماذا نذهب لبلاد الغرب وليس لدينا إلا ثنائية المؤمن المصان عرضه وماله ودمه ،والكافر المباح كل ذلك منه؟

لماذا نعيش حالة من الانسداد الفكري الذي يجعل الحقائق لدينا مطلقة لا تقبل نقاشا وليست مادة قابلة لوضعها تحت مبضع النقد ،وننظر للأمور بثنائية الحق والباطل ؟.

لا ريب أننا نعيش طفولة فكرية فإذا كانت الأسنان اللبنية تسقط في فترة الطفولة مؤذنة بأسنان أخرى تدشن لمرحلة عمرية أكثر تطورا، فإن الأسنان اللبنية لفكرنا تبقى مكانها مؤذنة ببقاء الفكر كما هو ، وإذا كان الطفل من ميزاته التقليد والانقياد الطوعي لكل ما يراه ويسمعه، فإن طفولة الأفكار هي بذات المعنى فنحن نقلد غيرنا ونسير في ركاب القطيع أينما اتجه، دون أن يكون للإنسان حرية المراوحة والجلوس مع نفسه متدبرا في أمره، لأن هناك من يمارس عليه استلابا عقليا يجرم عليه التفكير باعتباره ليس أهلا له، ولا قادرا عليه ،ممارسا سلطة أبوية تمحي وجود إنسان كامل بكل قدراته وامكاناته، ولذلك لا تعجب إن رأيت دكتورا في جامعة فضلا عمن هو أدنى منه منزلة. ولا يزال يسأل عن مسائل فقهية لو فتح أي كتاب لوجدها محبرة فيه بأدلتها. لماذا كتب علينا أن نجتر فقه الماضي ونعيش ابن تيمية ونتنفس الغزالي كما يقول حسن حنفي؟.

لماذا لا نؤصل كما أصلوا ونبدع كما أبدعوا ؟ ويكون لنا منهجنا الذي نسير عليه مستلهمين من نظريات النقد ومدارس اللغة زادا يعيننا على فهم كتاب العربية الأكبر على حد تعبير أمين الخولي. بدل أن نقتات على ماضينا ونخدمه بالشروح والحواشي. وشرح الشروح ونظم المنثور ونثر المنظوم. إن الطفل العربي خصوصا والمسلم عموما يتربى أن الحق واحد وأن غيره عدو ويحمل منذ صغره مظلومية يظل يحملها في صدره تفيض حنقا وحقدا على الآخر ولذلك لا يستطيع بسبب هذه الحمولات التي يحملها أن يمايز بين سياسة الغرب وبين حضارته وهذا الخلط فيما بينهما يجعله سادا لكل الطرق التي من الممكن أن ينتفع بها منه .

ولا ريب أن الطفل يشعر بالأمان حينما يسمع كلام أبويه لأنه ينجي نفسه من مغبة العقاب وكذلك المقلد وهو في وسط المجموع الذي ليس له إلا السمع والطاعة وإلا صار إلى العار والنار. لا ريب أن إيثاره السلامة يشعره بالأمان كما يقول نوفاليس (لا يشعر المرء بالأمان إلا في غرفة أبيه). كما أن الشعور بالخيبة والتشظي في الحاضر يدفع الإنسان دفعا إلى استجلاب صورة الماضي بكل إشراقاته التي ما زال الخطباء ينفخون في مدحها وسربلتها بثوب قشيب من العدل والتطور والحرية والنقاء.

فيبقى ذلك الطفل بداخلنا يحن حنينا إلى مجد متوهم قيل له: أنه أضاعه ،والإشكالية تكمن ليس فقط في كوننا نريد الاقتداء بما وجد من صفات عدل ونزاهة ونقاء، بل تكمن في أننا نريد أن نقتفي أثر أولئك الأفذاذ النادرين في تاريخنا حذو القذة بالقذة جامدين على لحظة تاريخية معينة دون أن نشعر أن عجلة التاريخ وسيرورته ليس فيها مكان للقابعين في أطلال الماضي والواقفين عليها؛ ولذلك لما مات الخليفة عمر وانحصر الترشيح للخلافة بين عثمان وعلي قال عبدالرحمن بن عوف لعلي: هل تبايع على السير بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر قال: لا بل اجتهد رأيي  وهنا بايع عبدالرحمن بن عوف عثمان بن عفان على السير على سيرة الشيخين وقد رأينا ما حل بالأمة من جراء ذلك.

إن هذه الطفولة الفكرية التي تبقى كما هي دون تطور مهما كبر الإنسان هي نتاج برمجة يتلقاها الطفل منذ صغره على أن يكون تابعا لا متبوعا ،هناك من يفكر عنه ويقرر له ما يفعل وما يذر ،فيقلد أباه طفلا ثم يكبر هذا التقليد في نفسه فيقلد استاذه ثم شيخه ،ولذلك يكون مشحونا بأيدلوجيات مثخنة بوحدانية الحقيقة، فتراه يثور ويتمعر وجهه عندما يجابه برأي يخالف ما درج عليه. وهذا بالتالي يحرمه من ملكات العقل ونوره الذي تنطفئ جذوته كل يوم بالرغم من التطور الذي لا يكاد يهز شعرة من رأسه لأنه لم يعرف من الحضارة إلا شكلها الظاهر وآثارها الخارجية أو على حد تعبير نزار(لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية) ناهيك عن تلكم العسكرة منذ الصغر وشحنه بعقيدة الولاء والبراء ،وهي بالتالي ترسم له صورة مستهجنة للآخر، وتغلق أمامه منافذ الاستفادة منه ،فإن استفاد منه كانت استفادته لا تتعدى القشور دون أن يتطور فكريا وإنسانيا .

إن هذا الطفل الذي بداخلنا  يحب الدعة والراحة والخمول وأن يقوم غيره بعمل ما يراد منه لأنه ببساطة عاش اتكاليا ولذلك تجد الكثير يلجأ إلى الدراسات الشرعية لكونها تعتمد كثيرا على الحفظ والترديد ولا تحتاج إلى كبير جهد ولا مزيد عناء ،خاصة وأن الاجتهاد فيها ممنوع على دارسها حتى يأتي بشروط المجتهد التي دونها خرط القتاد ،على أن الإلحاح على أن العلوم الشرعية هي أفضل العلوم وأكثرها أجرا وصاحبها هو المقدم اجتماعيا هي الدافع للكثيرين للإنخراط في هذا السبيل، ولو أدركنا أن ما به عمران الكون ونفع الناس هو الأجدى والأنفع من علم لا يقدم في أغلبه إلا تردادا لأقوال السابقين، وتجميد الناس في نقطة تاريخية مضت وانقضت، ويستطيع طالبها أن يحصل مراده بكبسة زر لينال الجواب الشافي، لو أدركنا ذلك لما كانت هناك هذه المفاضلة على أن دين الله سهل ميسور يصاحب الإنسان منذ صرخته الأولى حتى يوسد في قبره، يدرسه في الكتاب ويتعلمه في المدرسة ويسمعه من فم الخطيب أسبوعيا وبما أن الشيء بالشيء يذكر وتدليلا على قولي بأن هناك إيحاء بهذا الفضل وكراهية للعلوم الأخرى وإن كان ذلك مضمرا، فإني لا أنسى –وكنت هناك ساعتها-يوم طلب أحد المشائخ الشرعيين عقد مناظرة بين من يفضل العلوم الشرعية والعلوم التجريبية، واحتدم النقاش بين الفريقين حتى علت أو كادت تعلو كفة المؤيدين للعلوم التجريبية. عندها قام الشيخ مطالبا الطلاب بالتصويت على أحد العلمين، فأغلب الطلبة صوتوا للعلوم الشرعية خوفا من غضب الشيخ إلا أحد الطلبة الأحرار، والمسكين لم يؤيد العلوم التجريبية بقدر ما قال أن هذا راجع إلى الشخص وميوله، فكان أن غضب الشيخ وانتفخت أوداجه وذهب الطالب ليعتذر لشيخه فصفق الباب في وجهه!!.

 إن أول ما ينبغي علينا فعله لمواجهة هذه الطفولة الفكرية هو تربية النشء على ملكة التفكير، والبحث منذ صغره، وإثارة الأسئلة مهما كانت حدتها وغرابتها ،وتقليب الاحتمالات على وجوهها. والاستعداد للتنازل عن مسلماته متى تبين له بالبرهان خطؤها. وأن الجمود هو شأن الجمادات والعجماوات. وأن التبعية العمياء تعني سلخ الإنسان من إنسانيته، وتقزيم لذاته التي هي نفحة من روح الله، ثم علينا أن نربيه على احترام الإنسان كإنسان، وأن رفضه لسلوك فرد أو لمعتقده لا ينبغي أن يتوجه إلا إلى ذلك السلوك والمعتقد، دون مساس بإنسانية الآخر ودون جعل الخلاف حاجزا وحائلا دون الإفادة منه.

حمد بن مبارك الرشيدي