صحيفة البلد

اليمن.. ماض تليد ومستقبل غامض

 لم يكن خالد بن صفوان -وهو يصف أهل اليمن- ذامًّا إياهم بقوله (غرقهم فأر وملكتهم امرأة ودل عليهم هدهد) إلا كمن يحاول أن يغطي الشمس بكف.

فأهل اليمن ارتبطوا على مر التاريخ بصفتين لا تزايلهما، وهما: الحكمة والسعادة، فما زلنا نقرأ ونسمع أن الإيمان يماني، والحكمة يمانية. ولا يذكر اسم اليمن إلا قيل “اليمن السعيد”؛ دلالة على الحكمة التي يتحلى بها أهله، والسعادة التي تفيض منهم إلى كل قادم عليهم.

التقيت بأحد الإخوة اليمنيين في الحرم الشريف، وتواصلت بعدها معه؛ لأتوج تلك المعرفة بزيارتي لليمن الشقيق رغم كل المخاوف التي اكتنفت مرحلة ما قبل الذهاب، والتحذيرات التي ما فتئت ترسم السيناريوهات لنهاية تلك الرحلة.

فعزمة عمرية أيقظت ناشط همي متوكلا على الله، ونزلنا صنعاء؛ فإذا بالبلاد غير ما كنا نسمع. وإذا حضارة الخمسة آلاف عام تتجلى في كل ركن من أركان اليمن وكل زاوية من زواياه.

فلا تسأل عن عمارات شاهقة عمرها يناهز الأربعمائة عام ما تزال مأهولة بالسكان. ولا تسأل عن بيت الحجر، وسوق اليمن الشهير، وصهاريج عدن التي بنيت في أزمنة غابرة في تصميم هندسي يشي بعظمة بانيه وحكمة استشارييه.

أعجبني في اليمن بساطة لباسهم وتنوعه، وكرمهم، وأخلاقهم. وأعجبني طعامهم اللذيذ؛ فبنت الصحن والفحسة والمندي والكباب أكلات لا تمل منها هناك.

وأعجبني تراثهم الضارب في التاريخ؛ فكل بقعة في اليمن تصلح لأن تكون متحفا. فزرنا بصنعاء سوقها الشهير، وعماراتها التي تصل ارتفاعات بعضها لسبعة طوابق. والعجيب أن عمرها يقارب الأربعمائة عام ولا تزال مأهولة بالسكان.

وزرنا بيت الحجر الذي بني على صخرة كبيرة، وكانت نيتنا مبيتة لزيارة سد مأرب، وعرش بلقيس، ولكن انفجارا قتل بعض السياح الأجانب أقعدنا عن المسير.

وفي منطقة “دمت” زرت الحرضة، وهي فوهة بركان عظيمة الاتساع تخرج أبخرة ساخنة. وهناك حمام الدردوس حيث المياه الساخنة التي تنعش الجسد، وترخي الأعصاب.

ثم حاول البعض إثناءنا عن الذهاب لعدن عروس بحر العرب  بسبب الحرارة الشديدة فيها التي كانت قد قتلت في تلك الفترة بعض الأشخاص.

أما عدن؛ فلا تسأل عن طيب هوائها وشاطئها الذهبي، وصهاريجها التي بنيت ابتداء في مملكة عدن. وهي تحفة معمارية وهندسة تشي بالتطور الحضاري الذي شهدته اليمن حيث كان الماء ينزل من أعالي الجبال؛ فيحدث وديانا تدمر الزرع والضرع وتذهب هدرا فقاموا بإنشاء هذه الأحواض -التي كان عددها يقارب الستين وبقي منها 18 حوضا – بشكل متدرج من الأعلى للأسفل؛ بحيث تخفف اندفاع الماء وتحفظه في ذات الوقت.

يشاع أن اليمن بلد الفقر والجهل والمرض، وهي والحق يقال كذلك حسب ما رأيناه وسمعناه. وتلك هي الثالوث الذي إن استولى على بلد دمر مقدراتها وشل إبداعات أهلها.

المشكلة في اليمن مشكلة متشعبة الأوصال فالقبلية لها دورها الذي لا ينكر في تعطيل عجلة التطور، وكبح جماحه. فلا تسمع إلا بأن حربا ثأرية نشبت دون احتكام لدين يقول (النفس بالنفس).

ولا قانون يبسط سلطانه على الجميع. حتى أني رأيت قرية تسمى قرية الليل؛ وذلك لأن الحكومة اليمنية منعت الأهالي في تلك المنطقة من البناء فانتظر الأهالي تخييم الليل ثم بدأوا يبنون فما أصبح الصباح إلا على قرية الليل!

ولا تنفك تقرأ بأن سياحا خطفوا، وطريقا قُطع لأجل مطالبات فئوية  كرصف طريق أو إطلاق سجين.. الخ.

أما الجهل؛ فهو يعشعش في بلد يزخر بالعلم والعلماء، وأسبابه اجتماعية واقتصادية. فالأعراف التي تمنع تعليم المرأة ما تزال تخيم أطنابها باليمن. والحالة الاقتصادية تمثل بيئة طاردة للطلاب الذين لا يكملون دراستهم بسبب فقر أهاليهم وقلة حيلتهم.

أما الحكومة فهي الأخرى قد نخر فيها الفساد نخرا، فأضافوا إلى شح الموارد، شح النفوس. والى فقر البلد فقرا. وأقام أصحابها إقطاعيات كبيرة.  ونهب المال العام، وامتدت جذور الفساد إلى مختلف نواحي الدولة، فرتعت الرعية عندما رتع الراعي. حتى إننا كنا في إحدى المدن اليمنية؛ فإذا بحركة السير تتعطل لنعرف فيما بعد أن احد أفراد الشرطة كان يأخذ أتاوة من السائقين.

أم القات في اليمن فهو مشكلة المشاكل، وأسّ البلايا. فالفقير ينتزع اللقمة من فم أولاده ليشتري له بها قاتا يهون عليه مصائب الدهر، ويعينه على نوائب الزمان – كما زعم محدثي المخزن للقات- ويجلس اليمني في جلسات التخزين واضعا رجلا على الأخرى ظانا بأن مشاكل العالم ستحل على يديه فهو يهيم في فضاءات أخرى بفضل القات المُقيت.

ممررنا بمزارع عنب تبكي من قسوة قلوب أصحابها؛ حيث استبدلوا القات بالعنب و السم بالترياق والمرض بالصحة .

إن عظمة اليمني عظمة لا تحتاج إلا إلى مسح الغبار عنها. وقد ظهر ذلك في الاحتجاجات الأخيرة التي أظهرت رقيا حضاريا في التعامل، ومقدارا كبيرا من التعقل وضبط النفس، وعدم الاحتكام للسلاح الذي لا يعوز اليمنيين الرد إليه عند التنازع. ونحن نتمنى لليمن أن تكون كما كانت رافدا للحضارة العربية وأنموذجا للحكمة ونبراسا للعلم ووقودا للتغيير.

 

حمد الرشيدي