العمانيون وتهمة الاتّجار بالرقيق

لا توجد أي تجربة إنسانية دون إيجابيات أو سلبيات، لذا فإنّ تجربة الوجود العماني في الشرق الأفريقي لها ما لها وعليها ما عليها، فلا يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنها كانت تجربة مضيئة تماما دون أخطاء، وبالمقابل لا يمكن أن يدّعي أحدٌ أنها كانت تجربة حالكة السواد، إلا أنّ التركيز على السلبيات فقط ليس من العدالة في شيء، فالجوانب المضيئة كثيرة جدا، وتحتاج إلى كتب عديدة، ولكن ما يؤسف له أنّ هناك تشويها متعمدا على الوجود العماني في الشرق الأفريقي برمّته، خاصة من الغرب، مما أثّر كثيرا على جيل الشباب العماني نفسه، وأدى إلى إعطاء هذا التشويه الشرعيةَ عند البعض، خاصة في قضية “الاتجار بالرقيق” التي أشبعت نقاشا على مدى التاريخ.

وتعليقا على مقالي “ومرت خمسون سنة على الإنقلاب” تلقيت الكثير من التعليقات، منها رسالة من أحد الإخوة قال إنه لاحظ انحيازي التام للعمانيين، ووقف طويلا عند سؤال “لماذا حدث الإنقلاب؟” حيث فهم من ذلك أني أقصد أنّ الأفارقة بقيادة “كرومي” ناكرون للجميل العماني، وأني “ﻹثارة النفوس، استشهدت بثلة من المؤلفين والكتب والإصدارات التي تبريء العمانيين وتظهر أنهم ضحايا”، ثم سألني “لماذا نِصْفُ الشعب العماني الحالي من الأصول الأفريقية؟”، ويرد أنّ “هذه بعض ما كسبت أيدي العمانيين في الشرق الأفريقي… باعوا البشر بيع النعاج، وفرّقوهم عن أهاليهم.. وهذا ما دفع بـ “كرومي” لينقلب على العمانيين، بالإضافة إلى السيطرة على ثروات وخيرات الشرق الأفريقي وتهميش السود.. ولو كانوا عادلين لما حدث هذا الانقلاب.. هذه بعض الأمور التي هربْتَ أنت ومَنْ كتبوا عن الأحداث عن ذكرها، لأنها تاريخ أسود، أشبه بنفوس من فعلها”!

هذه وجهة نظر واحدة، تريد أن نركز فقط على السلبيات ونتجاهل كل الإيجابيات التي حدثت في الشرق الأفريقي بسبب الوجود العماني، وهو وجود بحكم الواقع كان محتما أن ينتهي، بغض النظر عن أنّ العرب كانوا هم الأسبق في السكن في زنجبار أو كانت قبائل “البانتو” هي الأسبق، فمن أراد أن يعرف ذلك عليه بالمؤلفات الأجنبية وهي كثيرة، عكس المؤلفات العمانية التي بدأت تظهر مؤخرا وعلى استحياء، فالكتبُ الغربية التي تناولت الوجود العماني هناك تشير إلى أنّ لولا اتخاذ السيد “سعيد بن سلطان” زنجبار عاصمة لملكه، ولولا استقراره فيها لما حدث لها تلك النهضة، ولكانت جزيرة منسية حالها حال “ملاجاسي” و”جزر القمر” و”سيشل” التي تعتبر اللغة السواحلية فيها إحدى اللغات الأساسية لكثرة وجود السواحليين، الذين تم جلبهم من البر الأفريقي كعبيد بأيدي الغربيين، فالسيد “سعيد” أنشأ في زنجبار كل مقومات الدولة الحديثة، وجعلها ظاهرة في الخريطة، وقصدها الناس للإستيطان فيها، كأي عاصمة أو مدينة ناهضة في العالم، علما أنّ “اليعاربة” كانوا قد وصلوا إليها وحرروها من الاحتلال البرتغالي بطلب من الأفارقة أنفسهم، فلا ينبغي نسيان هذه الحقائق والوقائع، لأنّ الغرب أراد أن يُطهّر نفسه وسمعته من التهمة الخبيثة التي ألصقها في العمانيين فقط، بأن زرعها في الأجيال الأفريقية حتى يومنا هذا.

لقد دأبت الإرساليات التنصيرية وكذلك الكتّاب الغربيون على إلقاء اللوم على العمانيين في مزاولة تجارة الرقيق التي حدثت منذ القدم، وكان الغربيون هم أسياد هذه التجارة، ولم تكن زنجبار هي القاعدة الأساسية لانطلاق هذه التجارة، لأنّ كل الزنوج في الأمريكتين، إنما تم استرقاقهم من غرب أفريقيا مثل “نيجيريا ومالي والسنغال وساحل العاج والنيجر وليبيريا” وغيرها، وهي الدول التي لم يصل إليها الحكم العماني بتاتا، وتُعتبر جزيرة “غوري” بالسنغال مركزا رئيسيا لتجارة الرقيق، إذ كانت المحطة الأخيرة للعبيد الأفارقة قبل نقلهم إلى أوروبا وأميركا، وتحظى الجزيرة باهتمام كبير من قبل المؤرخين الذين يعتبرونها جزءاً من تاريخ البشرية، بوصفها شاهداً على التاريخ الاستعماري الوحشي للقارة السمراء ورمزاً للعبودية والاستغلال البشري، وتوجد في الجزيرة السجون التي كان يبيت فيها العبيد قبل تقسيمهم على البلدان الغربية للعمل بالسخرة، وفيها المعتقلات التي شهدت أبشع عمليات التعذيب والاحتجاز، وقد شكلت الجزيرة من القرن ال16 إلى القرن ال19، المركز التجاري الأكبر لتجارة العبيد في الساحل الإفريقي، وخضعت على التوالي لسيطرة “البرتغال وهولندا وإنجلترا وفرنسا” وليس سيطرة العمانيين، وفي عام 1978 تم اختيارها ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، فيما تم اختيار “المدينة الحجرية” في زنجبار ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، وهي المدينة الراقية التي بناها العمانيون، واستولى عليها الأفارقة بالقوة، وتم تحويلها إلى مستثمرين أجانب، ولنا أن نقارن بين جزيرة “غوري” و”المدينة الحجرية”.

لقد روج الغرب أنّ العمانيين ألقوا القبض على ملايين الأفارقة وأرسلوهم إلى عمان والجزيرة العربية، وفي الحقيقة إنّ تعداد سكان جميع دول الجزيرة العربية لا يتعدى 65 مليون شخص، والذين من الأصل الأفريقي منهم لا يصل تعدادهم حتى نصف الواحد في المئة من عدد السكان في الخليج والجزيرة العربية، في الوقت الذي نجد فيه أنّ عدد الأفارقة الذين استعبدهم الأوروبيون وأرسلوهم إلى مستعمرات أوروبا وأمريكا يُعدّون بالملايين.

بالرغم من إلقاء المسؤولية واللوم على الرق في زنجبار على العمانيين، إلا أنّ العرب ليسوا وحدهم الذين اشتركوا في مزاولة تلك التجارة، بل إنّ دور الأوروبيين أوضحُ من الشمس، ويذكر أ. “إبراهيم نور شريف” في كتابه “مؤلفاتنا” أنّ أكثر بلاد أفريقيا كثافة في السكان هي نيجيريا، ويعيش فيها اليوم أكثر من 110 ملايين مواطن، والبلد الذي يليه مباشرة في عدد سكانه من ذوي الأصول الأفريقية هو البرازيل، وهو ليس في أفريقيا بل في أمريكا الجنوبية، ويعيش هناك، ما لا يقل عن 80 مليون نسمة من الأفارقة، ويوجد ما بين الأرجنتين وكندا أكثر من 150 مليون من البشر من ذوي الأصول الأفريقية، وكل هؤلاء الملايين لم يُرسلهم العمانيون إلى هناك، بل أرسلهم النصارى الأوروبيون، بالإشتراك مع الأفارقة أنفسهم، وإنّ تعداد ذوي الأصول الأفريقية في البرازيل وحدها أكبر بكثير من تعداد سكان بلدان الشرق الأفريقي، وأكثر من عرب شبه جزيرة العربية، وإذا ما جمعنا تعداد ذوي الأصول الأفريقية في كافة أقطار أمريكا، نكتشف أنّ عددهم يناهز تعداد سكان القارة الأفريقية بأكملها، بل وأكبر من تعداد كل العرب في المشرق العربي، ولا ننسى أنّ الإنجليز هم الذين كانوا في المقدمة في تجارة الرقيق، ووضعوا العبيد في خدمة بيوتهم ومزارعهم، قبل اكتشاف الميكنة وبدء الثورة الصناعية، ومثلما هو معروف فإنّ الأمريكتين قارتان زراعيتان وبها المعادن وكل شيء عكس الجزيرة العربية القاحلة.

لقد أصدر د. “عبد الله بن إبراهيم التركي” كتابا سماه “غزاة باسم الإنسانية” وهو أطروحة علمية مدعومة بالوثائق والمراجع والحقائق الدامغة وباعترافات المنصفين من المؤرخين الغربيين، بأنّ الغربيين كانوا هم تجار الرقيق، ودافع فيه عن التهمة الموجهة ضد العمانيين، وذلك بغزارة المادة العلمية وحسن الأسلوب مع كمية وثائقية كبيرة من كثير من البقاع، ويركز أنّ اتهام العمانيين بممارسة هذه التجارة إنما هي تهمة موجهة ضد الإسلام.

تكمن أهمية الكتاب، أنه يعالج قضية مهمة، هي أنّ مكافحة تجارة الرقيق هي الذريعة الرئيسية التي تذرعت بها حكومة الهند البريطانية للهيمنة على منطقة الخليج العربي عامة، وسلطنة عمان وشرق أفريقيا خاصة، ويركز أنّ معظم الباحثين والكتاب الغربيين أغفلوا دور بريطانيا السلبي في تجارة الرقيق، وركزوا على دورها الإيجابي، ويُظهر المؤلف، أنّ مكافحة بريطانيا لتجارة الرقيق لم تكن لدوافع إنسانية كما تدّعي،وإنما تهدف أساسا إلى نشر هيمنتها، وبسط نفوذها، وحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة، ويؤكد أنّ تجارة الرقيق لم تكن قائمة على العمانيين وحدهم، بل شاركتهم في ذلك جماعاتٌ أخرى حققت من وراء ذلك أرباحا طائلة، وقد عمل المؤلف على كشف الحقائق التاريخية، وإزالة المبالغات، وتجلية الغموض والالتباس الذي يركز على إلصاق تهمة تجارة الرقيق بالعمانيين، وفي كل الأحوال فإنّ الكتاب جدير بالقراءة، وقد اجتهد فيه د. “عبد الله بن إبراهيم التركي”، وهو من الكتب المنصفة للعمانيين تماما.

لقد بثت قناة الجزيرة تقريرا عن زنجبار بتاريخ 17-11-2007م، أكدت فيه أنّ المرشدين السياحيين في زنجبار، تلقوا مغالطات تاريخية ينقلونها للسواح الأجانب مما يثير إشمئزازهم تجاه العرب والمسلمين، وتتعلق هذه المغلطات فيما يتصل بدخول الاسلام الى زنجبار، وما فعله العرب بها، ويقول التقرير المُصوّر إنه في هذا المكان حاولت بريطانيا منذ نحو 130 عاماً، غسل عار ركمه تاريخها العريض في تجارة الرقيق، وفي نفس هذا المكان يحاولون تحميل العمانيين دون سواهم، كلّ وزر العبودية وتاريخها المقيت، وتختتم الجزيرة تقريرها بتساؤل: هل يجد العرب فسحة ًمن وقتهم للانتباه إلى ما يجري هنا؟!

زاهر المحروقي