الخلود والنفس البشرية

هل سبق أن طرحت على نفسك هذا التساؤل: لو اكتشفت في الغد (المستقبل) أنك قادر على العيش بدون نهاية، بمعنى أن تكون مُخلد لا تموت، بماذا ستشعر؟ وماذا ستفعل؟ ماذا ستفعل في حياتك القادمة؟

تخيلت الوضع قليلاً وجدته مليء بالملل من ناحية ومن ناحية اخرى هو تلاعب بالطبيعة خطير ومضر، فالخلود يعني أن لا وجود للموت، أن تستمر برؤية ذات المشاهد بدون توقف، أن يزداد عدد السكان بما يستدعي وضع قوانين تستحسن الانتحار، وتفرض القتل الاجباري حين سيتفشى الفقر، وتفشي الفقر هنا هو نتيجة طبيعية لقلة توفر الغذاء بعد أن يستمر الإنسان في العيش لفترة طويلة في تلك البيئة بدون توقف، أن تعيش ألف سنة أو ما يزيد حاجة تدعو للانتحار، فمجرد بلوغك المئة لن يعود جسدك قادر على العطاء والتفاعل مع الحياة، وخاصة في ظل مجتمع لا يعترف بالحرية والذات، ولن يكون هناك حاجة للتوالد فالسبب الذي يستدعي الانسان للتكاثر هو الموت ولذلك يخلد نفسه عن طريق الابناء، وبالتالي ستتغير في الغالب المبادئ البشرية، فالموت هو النهاية المرحب به للمعاناة الشديدة في الحياة بطبيعة الحال، فكيف تكون حالة الذات حينها؟

القلق من الموت هو الدافع الرئيسي للسلوك البشري على المستوى النفسي والذاتي والثقافي، وفكرة الخلود انبثقت من هذا القلق البشري حول الموت، والأفكار التي تدفعنا إلى الكثير من التساؤلات تنصب بكون الخلود رغبة للاستمرار في الحياة، ولكن لو استمررت بالحياة لفترة طويلة هل ستصاب بالكسل ؟ هل ستصاب بالملل؟ هل ستستمر بالنشاط الذي يدفعك لهذه الرغبة والامنية الدفينة للعيش الطويل؟ هل سيكون للأمل طعم التحقق حينما يحدث ما انتظرت حدوثة وأنت فاني؟ فالإنسان بطبيعة الحال متقلب المزاج، يبحث عن التجدد الدائم، وغالباً ما يفكر بالغد الغامض، ولكن حينما يكون فاني هل سيكون للغد ذات الغموض؟

المورثات التاريخية للإنسان حول الخلود، اظهرت حجم الخيال الفكري الذي يملكه حول هذه الفكرة، فالخلود لو تتبعناها في قصة سيزيف ( رمز العذاب الابدي وأحد الإله الاغريقية ) نجدها نوع من أنواع العقاب بحمل سيزيف للصخرة من أسفل الجبل إلى اعلاه، فإذا ما وصلت للقمة تدحرجت إلى الوادي فيعاود رفعاها بنفس الطريقة إلى الأبد، هذه القصص من الموروثات التي خلفتها الفكرة البشرية للخلود تمثل النظرة التي قد تصاب الإنسان حينما يخلد، وهو تكرار العذاب في أحد جوانبه، والقصص الاخرى التي تدور حول اكسير الحياة والبحث عنه، نجدها في قصص الاطفال في مختلف الثقافات العالمية، وهناك الديانات السماوية تعتبر الخلود في الجنة جزاء للمؤمنين والخلود في النار جزاء للكافرين، لذلك يسارع الارهابين الآن بقتل اعداد كبيرة من الناس طمعاً في ذلك الخلود! ومن المثير للاستغراب أن الناس قد ترغب بالخلود لأجل أن تكون لديها فرصة للتصالح مع الآخرين وحل المشاكل التي بينهم ولم تمكنهم الحياة الفانية على تقديمها لهم.

يُخلد الإنسان نفسه بالكتابة، فهي الطريقة الوحيدة التي استطاع عن طريقها أن يبقى مخلد في التاريخ البشري، باستمرار وجوده في الذاكرة الثقافية لأي حضارة أو دولة، وما يحدث الآن من ثورة معلوماتية تكنولوجية رقمية مكنت الناس من حفظ ذكرياتهم وتخليدها في أقراص بالغة الدقة والصغر، وكل ذلك في سبيل استمرار الخلود البشري، وما قد يستدعي الرغبة بالخلود في الوقت الراهن هو الخوف من توقف الوعي، فالوعي لدى الحضارات والثقافات المختلفة الآن هو حياة بحد ذاته ونافذة للوجود.

الخلود بالمعنى الحرفي لم يعد مثير للاهتمام لدى اولئك من يعيون أن الموت نهاية طبيعية والحياة فترة مؤقتة يستطيع فيها الفرد ايجاد ذاته والعمل بطريقة تنموية، عن طريق مساهمته بصورة صحيحة وصحية ومرضية خلال فترة زمنية وجيزة لأجله ولأجل الآخرين، فالتغيير المتنوع من بداية إلى نهاية ساهمت في خلق حضارات مختلفة وأفكار متنوعة عززت من الثقافة الإنسانية لمعنى الحرية والحاجة إليها بعيداً عن أوهام غير واقعية أو منطقية سببها نظرة منقوصة للكون والحياة.

عادلة عدي

1 تعليقك

  1. ظننت أني وجدت الموضوع الذي أبحث عنه دائماً ومنذ سنين. إن أكثر ما يرعبني و

Comments are closed.