الحقيقة الضائعة

كتبت قبل فترة مقالاً (نشر في الفلق) أبرزتُ فيه رؤيتي حول التناقضات العقلية التي وجدتُها في كتاب: الإيمان بين الغيب والخرافة، لثلاثة مؤلفين سيغلب عليهم لاحقاً تسمية “العقلانيين”. كان من المناسب تماماً الاعتراف بأهمية الكتاب حينها وأثره المدوِّي على مجموعات المفكرين، والمفكرين في الدين خصوصاً. كان الانتقاد العام الذي وجهتُه إلى الكتاب مبنياً على أنه حين التكلم عن استخدام العقل في النظر إلى بعض الأمور، لا ينبغي أن يُغفَل استخدامه في الأمور الأخرى. إذ لا ينبغي أن يُستخدًم منهجا العقل والنقل حسب رغبة المفكر؛ يُقدِّم واحداً ويؤخر الآخر حسب الموضوع المنظور إليه، لأن ذلك في النهاية يجعل النمط الكلي للأفكار مسوقاً بدافع الرغبات الداخلية لا بمحاولة توخي الحقيقة الموضوعية.

ويحضرني مثال هنا لتوضيح فكرتي هذه من مناوئ “العقلانيين” الشيخ أحمد، ففي رد له على سؤال يتعلق بعيد ميلاد المسيح ذَكَرَ أن الوقت الذي يُحتَفل فيه بميلاد السيد المسيح ليس صحيحاً؛ فهم يحتفلون به حاليا في الشتاء، بينما تخبرنا القصة القرآنية أن الله أمر السيدة مريم أن تهزَّ بجذع النخلة كيما يتساقط عليها التمر. والحجة التي يسوقها الشيخ هنا أن النخل لا ينضج ثمره ويصبح جاهزاً للأكل إلا في فصل الصيف، مما يدحض إمكانية أن يكون مولد السيد المسيح كان قد حدث في الشتاء. فهنا استخدم المُحاجِج العقلَ لتبيان أمر محدد وتركه في القصة بأكملها التي لا تحتمل العقل. فلا بأس أن يولد السيد المسيح من أم فقط بلا أب، ولا بأس أن يتكلم الصبي في المهد، ولا بأس أن تهز السيدة مريم جذع النخلة فيتساقط التمر، فكل ذلك قابل للحصول بقدرة الله الذي يُوجِد الأسباب ويُلغيها حسبما يشاء، لكن المشكلة تكمن فقط في أن النخيل لا ينضج ثمره في الشتاء.

وكيلا نغمط “العقلانيين” حقهم فإنهم في الكتاب وضعوا حداً واضحاً فاصلاً يفرق بين المواضع التي يجب أن يُستخدَم العقل فيها والمواضع التي يجب أن يقف عندها. وكان ذلك بحق توضيحاً جيداً للمنهج الذي سيسير عليه الكتاب، لولا طبعاً، كما كنت ادّعيتُ في مقالي، أن المنهج هذا لم يحقق أكله في المواضيع التطبيقية التي اشتملها الكتاب. وعلى العموم فمن المناسب توضيح ذلك هنا بشكل مختصر؛ فحسب قراءتي للكتاب أخذ كاتبوه كل أمر ذكر في القرآن على أنه صحيح مهما بدا لنا أنه غير عقلاني في ظاهره. لذلك لا مجال للشك مثلا في قضية ولادة السيد المسيح من أم بلا أب. أما القضايا التي وردت في الأحاديث فلا ينبغي أن تؤخذ بذات الكيفية من اليقين.

وهذا طبعا راجع إلى مشكلة النقل المشكوك فيه للأحاديث بالمقارنة مع النقل المتفق عليه للقرآن. فالفكرة الرئيسية هنا ليس في أن ثمة أشياء غير عقلانية واضحة في القضايا الدينية بل في أن كمية الأشياء غير العقلانية توسعت بحيث شملت أمورا كثيرة ينبغي التنبه لها. والتنبه لها يكون بردها إلى القرآن والنظر في وجودها أو عدمه. فإن وجدت كفل لها التصديق وإن لم توجد فلا يحق النظر إليها إلا كتراث من الأقوال لا شيئاً منزلاً من السماء، أي لا يتوجب عليه إتيان فعل أو اجتنابه.

لكن الأمر ليس بذلك الوضوح الذي يتمناه من يضع نظرية ويريد تطبيقها. ولذا فإن العقلانيين من ناحية ومناوئيهم من ناحية أخرى جميعهم يستشهدون أحياناً بنفس الآيات وبنفس الأحاديث ليصل كل واحد منهم إلى النتيجة المعاكسة للآخر. فمثلاً ومع أن الكتاب المشار إليه فَصَّل في أمر السحر نجد أن الجانب المناوئ للعقلانية يرى في النصوص القرآنية دليلا على وجود السحر بالكيفية التي يرونها لا الكيفية التي يراها العقلانيون. وهذا ما يدخلنا إلى موضوع هذا المقال عن “الحقيقية الضائعة”. فالحقيقية التي يَدّعي كل طرف أنه يحاول الوصول إليها قد تكون ضائعة تماماً وغير قابلة للتلّمس حتى.

صدر مؤخرا كتاب الشيخ أحمد “الحقيقية الدامغة” والذي هو في مجمله رد على طائفتين من الأفكار “الحشوية” و”العقلانية”. ويبدو أن الدافع لكتابة الكتاب هو اطلاع الشيخ على “تحذير بثه أحد الحشوية المغرضين ينذر فيه أصحابه خطورة الاتصال بالإباضية أهل الحق والاستقامة”. والتحذير “يفتري” أن الإباضية لا يأخذون بالسنة “لأنهم غير مؤمنين بها”. وهذا التحذير بالذات مبني على مغالطة –كما يرى الشيخ – وهي أن “الحشوي المُغرِض” يلصق بالإباضية فئة “مارقة” كانت محسوبة على الإباضية “قبل ظهور مروقها وانكشاف طواياها وتعري فضائحها”. بالتالي جاء الكتاب ليضع النقطة التي يقف عندها “الإباضية”؛ فهم ليسوا “حشوية” ولا من الفئة “المارقة” أو بالأصح ليست منهم.

وبناء على هذا جاء هيكل الكتاب الذي فيه يتعرض الشيخ لعلاقة الإباضية بالسنة النبوية من حيث المنهج والاعتماد، ثم يرد على “الحشوية” ثم يثني ويرد على “العقلانيين”. ومع أن العملية هذه -عملية تمييز منهج الإباضية عن مناهج كلتا الفئتين المُهاجَمتيْن هنا فيما يتعلق بالذات بأمر الأخذ بالسنة النبوية، بمحاولة وضع النقطة التي يقف عندها “الإباضي الحق” -مع أنها قد تبدو شديدة السهولة إلا أنها حقا تحتاج إلى ميزان دقيق؛ فالأخذ بالسنة قد يدخل “أهل الحق” في “الحشوية” وترك السنة قد يدخلهم في “العقلانية”.

ولا أرغب هنا في قراءة الكتاب من حيث أطروحاته التفصيلية بل من حيث رؤيته المنطقية للأمور المُناقشة فيه. ولعل الدافع إلى هذا هو أنني في مقالي المشار إليه سابقا ناقشت الطرح “غير المنطقي أحيانا” في كتاب العقلانيين الأول مما يجعل لزاما “إن صح التعبير” أن أتطرق أيضا لـ “المنطقية المتعثرة” في كتاب الشيخ، مع البداية بالإشارة إلى نقطتين أجدهما مهمتين.

أولاهما، أن العراك الفكري المحتدم بين الفريقين العقلانية من جانب والإباضية كما يشرحها الشيخ أحمد من ناحية أخرى، ليس عراكا ثابتا بل هو عملية متحركة وفاعلة في المجتمع فعالية كبيرة. ولعل صدور كتاب الشيخ يشير إلى أهمية تيار العقلانية في المجتمع الإباضي المتدين. فلو أن العقلانية كانت طرحا عابراً وبسيطاً فإن الشيخ كان يمكن أن يتصدى له منذ محاضراته الأولى في هذا الشأن أو منذ كتابه الذي صدر رداً عليهم: العقل بين جماح الطبع وترويض الشرع، لكن تيار العقلانية يلاقي “هوى” في نفوس المتدينين المفكرين. وهم يتوالدون، طبعا ليس بذات الكيفية التي انطلق منها المؤلفين الثلاثة لكتاب: الإيمان، بل بتفاوتات واختلافات في المواضيع. وهذا بالطبع أمر طبيعي جداً فالأفكار تدفع لجدل أفكار ولغربلة. والقراءة إن لم تفعل هذا فليست هي حقا قراءة.

ويمكنني أن أدعي هنا أننا لو نظرنا لأفكار المهتمين بالشأن الإباضي من ناحية فكرية فإننا سنجد خطاً مستمراً من الأفكار والمواقف بحيث لن يكون من المناسب القول إن هناك فئة عقلانية وأخرى “إباضية حقة”. بل هناك في هذا الخط منطقة غير واضحة لأن ممثليها الأقرب إلى خط “الإباضية الحقة” لا يُظهِرون آراءهم. فهناك مجموعة كبيرة ممن يمكنهم القول وإضفاء العديد من الأفكار المهمة والجديدة حول هذا الموضوع لكنهم “صامتون”، وصمتهم مرده اجتماعي وسياسي لا فكري. وله علاقة بمعرفة الشيخ لا بالنظر إلى كلامه وحججه في كتبه ومحاضراته. ولقد أشار إلى هذه النقطة؛ التطور والتفاعل وعدم الثبات في مسار العقلانية، الشيخُ ذاته في الكتاب حين عدّد بعض المراحل التي مر بها هؤلاء العقلانيون (ص 153).

أما النقطة الأخرى فهي رؤية الكتاب للإباضية كمجموعة متسقة في أفكارها أو هكذا ينبغي أن تكون. فلا وجود لإباضيات متعددة إلا ربما فيما يتعلق ببعض الآراء الفقهية التي يمكن أن يقول بها عالم ويخالفه فيها عالم آخر. أما المسائل الأخرى وخصوصا التي تتعلق بالعقيدة والأصول والمنهج فهي متفق عليها. لذلك فالخروج عن هذه الأفكار هو “مروق”، وما العقلانية بالتالي إلا فرقة “مارقة”. ومن الجدير بالذكر هنا أن العقلانيين فيما يبدو من محاوراتهم الشفهية الأولى مع الشيخ حين كانوا ما يزالون ينظر لهم كأعضاء في المذهب لا مارقين منه، أو حتى في كتاباتهم كانوا يدخلون إلى مناطق الاختلاف بالعودة إلى أفكار علماء الإباضية المتقدمين.

أي كأنما يقولون إن الإباضية ليست هي آراء “الشيخ أحمد” ولا حتى “الشيخ السالمي” فحسب، بل تمتد عميقا في التاريخ إلى ما يسمونها بـ “فترة التوهج الأولى”. وطبعا يؤكد الكتاب (ص 153) أن الاتكاء هذا على أفكار الغابرين من علماء المذهب إنما كان اتكاءً مرحليا. وهو أمر واضح جدا، حتى أنه يمكن القول إن كتاب العقلانيين: الإيمان، كان لا يتكئ فقط على المدرسة الجابرية بل على الآراء الخليلية أيضاً في محاولة للتقليل من حدة الفراق المبدئي وليكون مدخلا “سياسيا” إلى مناطق الافتراق الواضحة في الأفق، القادمة لا محالة.

ومع أن الشيخ طبعا يرى هذه المرحلية أمراً سالباً بل ويوحي أنه أمر مُخطَّطٌ له سلفاً بحيث يكون المقصود منه سوء الطوية والتحايل حتى الوصول إلى التمكن ثم الانطلاق في “المخطط له”، إلا أن المدقق في الأمر قد لا يرى فيه إلا نوعاً من الرغبة في طرح الأفكار بلا حاجة إلى تنازع وشقاق، وهو الأمر الذي عدّه الشيخ “نفاقا”، لكن تتابع المراحل في فكر “هؤلاء” أوصلهم إلى “أن خلعوا أغشية النفاق كلها، وجاهروا بعدائهم للإسلام ونبذهم له”.

الأمر المرعب في الكتاب أنه يطرح حججه كما لو أنها واضحة وضوحا لا لبس فيه أبدا. بحيث أن من لا يستطيع أن يراه، كما يراه الشيخ، فإنه معتل لا محالة. ولعل خير شاهد على هذا هو اسم الكتاب: “الحقيقة الدامغة”. فمن بين كل الأديان في العالم هناك دين واحد فقط ينتمي إلى الحقيقة هو الدين الإسلامي، ومن بين كل المذاهب في الإسلام هناك مذهب واحد فقط ينتمي إلى الحقيقة هو المذهب الإباضي، ومن بين كل الأفكار التي يمكن أن يقولها الإباضية أو يعتنقونها في الوقت الحاضر فإن “الإباضية الخليلية” هي التي تنتمي إلى الحقيقة.

لذلك لا مجال للشك في أي شيء، وكل ذلك يظهر جليا في التعابير والكلمات المستخدمة على طول الكتاب؛ فهي تعابير إيجابية حين تكون في طرف الإباضية الخليلية: الحقيقة الدامغة، والحق، ومعالم الحقيقة، وحزب الرحمن، وأنوار الحقيقة، ووضوحها وضوح الشمس، وراياتها الخفاقة، وصوتها المجلجل، بينما تصبح سالبة تماما حين النظر إلى الأطراف الأخرى: معاقل الباطل، وحزب الشيطان، وجنود الباطل، المتعامين، والمتصاممين، والفئة المارقة، والخالعين لربقة الإيمان، الموغلين في وادي الضلال، ومتاهات الظلمة، ومهاوي الإلحاد والفساد.

ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة هو لماذا مع كل هذا الوضوح في الحق والحقيقية (لا يمكن فهم الفرق بين مصطلحيْ الحق والحقيقة الواردين في مقدمة الكتاب إلا بأن كلمة الحق تشير إلى كتاب أسبق للشيخ بعنوان: الحق الدامغ) لا يراها هؤلاء الحشوية والعقلانيون؟ وهو سؤال مهم جداً. ذلك لأن مقدمة الكتاب تشير بوضوح إلى هذه المعضلة.

فمع وجود حقيقة واضحة جدا كوضوح الشمس في منتصف النهار، فما الذي يمنع هؤلاء من رؤيتها؟! هل لأن هؤلاء لا يدركونها أو لا يرونها أم أن السبب يكمن في أمر آخر؟ طبعاً لو لم يكونوا يدركونها فهذا يعني أنهم جاهلون، فهل هم جاهلون؟ لا، لا يرى الكتاب جهلهم أو قلة إدراكهم بل العلة تنبع من شيء مختلف. فهم يتصاممون عن “نداء الفطرة الذي يصخ الأسماع”، و”يتعامون عن أنوار الحقيقة التي تملأ الوجود”.

حتى أن الكاتب يعود فيقول في مقدمة الكتاب أن العقل “يكاد لا يتصور أن يهوي إنسان إلى هذا الحضيض الأسفل من الضلال مع ما أوتي من الفهم والإدراك”. والإنسان “يحار” مما يفعلونه ويقولونه. وإذن فالعلة التي يراها الشيخ في هؤلاء (الحشوية والعقلانيين) ليست قلة الفهم أو انعدام الإدراك أو الجهل. لا، بل هي التعامي والتصامم عن الحق. فمعضلتهم الحقة ليست في الفكر بل في أنفسهم. و”الداء القتّال” الذي يعتورهم هو “حب البروز والشهرة”.

لكن الشيخ لا يقف عند هذا الحد من إبداء العلة التي اعتورت هؤلاء بل مضى في الطريق خطوة أخرى أكثر خطورة. فقد اتهم هؤلاء اتهامات غريبة جداً، والأهم أنها ليست مدعومة بحجج، وإن دُعِّمت بحجج فهي حجج ضعيفة جداً وغير متسقة. فهؤلاء يؤثرون “الإلحاد على الإيمان” و”انخرطوا في سلك الملحدين” ويحاولون “اقتناص ذوي العقول المأفونة … حتى يتمكنوا من غسل أدمغتهم”.

و”واضح بداهة أنهم تقف وراءهم الصهيونية العالمية، فهي التي تخطط لهم وتملي عليهم”. أما دليل ارتباط “العقلانيين” بالصهيونية هذا فهو أنهم يدعون أن “الجنة موئل جميع أصحاب الديانات مهما كان اختلافها ورفعوا عقيرتهم بالجنة لمن مات على غير الإسلام … وهذه فكرة ماسونية. وهي دليل ارتباطهم بالصهيونية العالمية”. أما الدليل الثاني فهو “ما كان من أحد هؤلاء العقلانيين الذي عندما أشيع أن بعض شباب المسلمين تمكنوا من اختراق الشبكات ووصلوا إلى المواقع السرية للمؤسسات الصهيونية، فقد جن جنونه بهذه الإشاعة … ما يشهد أنهم منخرطون في المنظومة الصهيونية”! والدليل الثالث أنهم يشيعون أن المسجد الأقصى الذي ذكر في القرآن ليس هو الذي بأرض فلسطين.

أما حين نأتي لأنواع الضلالات التي أعلنوها فهنا ندخل في تفصيل عملي لبعض الأفكار التي جاء بها “العقلانيون” التي يرى الشيخ أنها تردي في “هاوية الكفر والضلال”. وهي كالتالي:

  1. تبرئة الشيطان من تبعة إضلال بني آدم (مع أن الواضح من خلال كلام الشيخ في الكتاب أن المقصد تفسير الغواية لا إنكارها)، وأن من يقوم بالإغواء حقا ليس الشيطان بل هي الجينات.
  2. تفسير نعيم الجنة تفسيرا حضاريا. ويبدو أن المقصود أن نعيم الجنة إشارة إلى قيمة العمل في الدنيا.
  3. عدم تمييز الإسلام عن الأديان الباطلة. من حيث أن رحمة الله وسعت كل شيء هي خاصة بالمؤمنين المتقين الذين يؤمنون بالنبي محمد (ص).
  4. تطاولهم على شرائع الله وانتقادهم لأحكامه. وذكر الكتاب تحت هذه، أن أحدهم تعجب من إباحة الوطء بملك اليمين ولو لم تكن الموطوءة راضية.

وطبعا ليس بغريب أن تكون هذه الأفكار نابعة من استخدام العقل في التفكير في القضايا الدينية. والحق أن الشيخ لا يناقش عقلانيتها أو لا عقلانيتها بل موافقتها للثابت والمعلوم من الدين. لكن الثابت والمعلوم من الدين على رأي من؟ ويبدو لي أن العقلانيين، من تتبع الأربع أفكار السابقة، واقعون بقوة تحت ضغط العالم المعاصر وتقنياته وعلومه. فتفسير الغواية بالجينات مع ما يحمله من غرابة ليس بأغرب من فكرة الشيطان ذاتها، مع أن الأخيرة شائعة جداً. إلا أن وجهة نظر العقلانيين تبدو كمن يحاول أن يُوجد تفسيراً معاصراً للغواية. أما من ناحية تفسير نعيم الجنة تفسيراً حضارياً، فمرده أن التفكير في الآخرة بعد كل شيء يلهي الإنسان عن العمل من أجل بناء الأرض، مع أنه بالطبع ربما تكون هذه النقطة أشد ما تكون في الإسلام الصوفي، لكنها تظل حين النظر فيها قابلة للتأول.

أما نقطتيْ وطء ملك اليمين غير الراضية والترحّم لغير المؤمنين، فواضح أنهما جاءتا من المذاهب الإنسانية الشائعة في العالم الحديث، وأظن أن هذه فكرة مهمة حين النظر لكتابات العقلانيين. فهناك سعي، سواء أكان صحيحاً أم خاطئاً، إلى محاولة ردم الهوة بين ما يمكن أن يُؤخذ على الإسلام من أنه دين لا إنساني وبين ما أفرزته الشرائع البشرية من تمجيد لهذه الإنسانية. فهل فعل هذا بحد ذاته يعتبر تغييراً للدين، كما يقول الشيخ في كتابه؟

ثمة فكرة رئيسية هنا وهي أن العقلانية وهي تسعى لردم هذه الهوة تفكر كالتالي: الإسلام الحقيقي هو إسلام إنساني ليس بمعنى الإنسانية الضيقة كمذهب حديث، بل بالمعنى الكلي، فالإسلام يقف مع القيم الكبرى للحق والخير والجمال والعدالة. (لكن ما هو الجمال مثلا؟ فهل سماع الموسيقى يعد زيادة في الجمال؟) لذلك إذا وُجِد من الأفكار الإسلامية التي تجانب الإنسانية سواءً في النصوص أو في سير التاريخ الإسلامي، فإن العيب ليس في الإسلام وإنما في فهم نصوصه القرآنية أو عدم صحة نصوصه الحديثية أو تجاوزات البشر في تطبيقهم للإسلام على مر التاريخ.

وهذا الأمر ذو أهمية كبيرة لأن هناك شبه إجماع عالمي اليوم على أهمية العمل من أجل الإنسان، ناهيك عن أن أساليب التواصل الحديثة جعلت من أمر التعامل مع الآخر غاية في الأهمية.

فالإباضي ليس الآن الذي يقبع بين جبال العزلة بعيداً عن مركز الدولة الإسلامية في بغداد أو دمشق بل وإن المسلم ليس المتفرد بعالمه البعيد عن العوالم الأخرى. بالتالي فإن التفكير بمثل هذه الأمور لا يخرج بتاتا عن التفكير بالأمور المعاشة حقا.

الأمر الذي يغفله كتاب الشيخ أن الحقيقة ليست بذلك الوضوح. ولذلك فالاتكاء على رؤية واحدة ووحيدة فيه نوع من الغلواء. بل إن سير الحقيقة حتى على المستوى الديني ليس بذلك المسار الواضح. فالحقيقة لا تتنزل من الله ثم يعرفها البشر بقراءة النصوص القرآنية والحديثية والسير والتاريخ الإسلامي. فهذا المسار غير موجود بشكله الواضح هذا. المسار الواقع أن قراءة النصوص تؤثر في النصوص ذاتها، ولذلك يجمع المسلمون إلى حد ما على أهمية تفاسير القرآن، وأهمية الأحاديث في شرح القرآن وتفسيره، وأهمية أسباب النزول والسيرة النبوية في فهم الآيات. فلماذا إنْ كانت الحقيقة واضحة يُحتاج إلى تفسير لها؟

لنلقِ نظرة على مثال من كتاب الشيخ يُفصِّل وجهة نظري في الفقرة السابقة. في المحور الثاني من الكتاب والذي هو بعنوان منهج الإباضية في الحكم على الرواية يَردُّ الشيخُ الحديثَ الذي يُروى عن عبدالله بن مسعود (ر) في أنه كان يقول إن “المعوذتين ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى” لذا كان يزيلهما من مصاحفه! فنحن هنا أمام مثال صاعق على قدرة النصوص على التأثير في بعضها البعض وفي تأثير العلماء (التراث العلمي) على النصوص. والشيخ يرد الحديث ويحكم ببطلانه بسبب متنه لا بسبب سنده. والحجة القوية التي يوردها أن الحديث يشكك في شيء من القرآن ولذا وجب أن يُرَد.

فنحن هنا أمام حديث يأخذ به البعض وموجود في كتب الحديث المشهورة لكنه قابل للرد أو هو مردود من قبل بعض العلماء ومن بينهم الشيخ أحمد.

أين تكمن الحقيقة هنا؟ هل المعوذتان من القرآن، أم هل الحديث صحيح والمعوذتان ليستا من القرآن، أم هل وجب أن يكون عبدالله بن مسعود قد أخطأ إما عن قصد أو عن نسيان؟ فهنا يقول حديثٌ أن نصاً قرآنيا ليس من القرآن. وهكذا فإن سنة مكتوبة وشارحة للقرآن تقول بأن شيئا من القرآن ليس منه. لكن الحقيقة التي يؤمن بها الشيخ يبدو أنها جاءت من فهم كلي للقرآن وفهم كلي للأحاديث بحيث جاز له أن يأخذ بقاعدة أن كل حديث يشتمل على التشكيك في القرآن هو مردود. هذه القاعدة، ولنفترض تماما أنها قادمة من القرآن والأحاديث والسيرة النبوية والتراث العلمي، أُشِهرت في هذا الموضع لوزن أمر يخص القرآن والأحاديث، ولذلك وجب أن يتلقى شخص (الشيخ مثلا) هذه القاعدة من خلال كل معرفته ثم يبدأ في تعيير ما يقوله الحديث. ليست ثمة حقيقة هنا بل فهم محدد لنصوص، وإعمالٌ للنصوص والعقل عليها للخروج بحكم على صحة شيء ما أو بطلانه.

ولأن المثال السابق مثال معقد نوعا ما وقد لا يكون مفهوما تماما فسأعرج إلى مثال أفضل قليلا. وهو حديث يذكره الشيخ ليرده أيضا وقد ورد في صحيح البخاري وفيه أن الرسول بال واقفاً. ففي رأي الشيخ أن البول وقوفا مجافٍ للحياء و”يخل بالآداب والأخلاق”. فما هي الآداب والأخلاق التي يقرها الرسول هنا، وكيف وصلت إلى أن تكون آدابا وأخلاقا؟ إذا كان هذا الحديث صحيحاً فإن الرسول يجيز فعل البول قائما، لكن الرسول في أحاديث أخرى يرِد عنه الانتظام في البول جالسا. فالواضح هنا أن فكرةً تشكلت من الأحاديث عن هيئة الرسول وفعله، هذه الفكرة التي جعلت البول وقوفا أمر مناف للآداب والفطرة والأخلاق.

ثم استُعملت هذه الفكرة ذاتها لرد حديث آخر يقول بالعكس. وهذا يعني أن مسار الحقيقة هنا تشكل كالتالي: حديثٌ أول كوَّن فكرةَ ما، ثم استُخدِمت الفكرة هذه لرد حديثٍ ثانٍ. لو كان الحديث الثاني هو الذي كوَّن الفكرة المقبولة بدايةً فإن الفكرة حينها ستكون العكس وحينها ستستخدم لرد الحديث الأول.

فالواضح هنا أن الحقيقة تتشكل من تفاعل بين الإنسان والنص وليس فقط من النص ذاته. فما بالك إن كان النص مختلقا، فإن ذلك يجعل التفاعل البشري أسبق من النص في تشكيل قاعدة عامة.

أخيرا أجد من المناسب أن أورد أمرا ذكره الشيخ حين رده على العقلانية ومباينتها للإباضية، فقد عد من المجاهرة بالكفر التمسك بقول إن “النصوص هي لمرحلة زمنية غابرة، وأن من يتمسك بها فهو يعيش مع التأريخ”. ولا أظن إلا أن في هذا تجنٍ إلى حد ما على العقلانيين أو بعضهم على الأقل. لكنّ الفكرة ذاتها فكرة تستحق الوقوف عليها. فهي لم تأت من فراغ. فليست القضية في النصوص نفسها وإنما في الأحكام التشريعية التي تنبثق عنها. والقول بتأريخية تشريع ما لا يعني القول بخطأ النص، بل بصلاحيته لزمان محدد. والحق أن هذا من ضمن ما يسمى بتفاعل البشر أو المجتمع مع النص.

وككلمة ختامية أجد أن الكتاب بطرحه الذي لا يقبل الشك ولا المساءلة بحاجة ماسة إلى من يقوم بنقده ممن هم أقرب لمجال الاشتغال بالفكر الديني. لإن خطابا يعرض نفسه كحقيقة واحدة ووحيدة أمر مستهجن، أما أن يقصي الخطابات الأخرى ويلصقها بتهم لها مدلولات وأبعاد خطيرة فهذا يجعل المستهجنَ خطيراً. وعليه أجدد دعوتي للفئة “الصامتة” أن تدلي بدلوها أيضا من غير تخوف مبالغ فيه أو اعتبارات شخصية.

حسين العبري