سعى الباحث سعيد الهاشمي في ورقتة البحثية المنشورة في مركز الجزيرة للدراسات والتي حملت عنوان “التغيير في عُمان: بين سلطة الدولة ودولة السلطة” سعى لتسليط الضوء على أبرز الأسئلة المسكوت عنها في الراهن العُماني: “سؤال التغيير”؛ وذلك من خلال تتبُّع جدلية الدولة والسلطة من جهة، وقراءة الرغبة في التغيير والقدرة على ذلك من جهة أخرى.
ويجتهد الباحث في استدعاء بعض الإشكالات لفهم راهن السلطة السياسية في البلاد في ملفات محورية كالدستور، والأمن، والتعليم، والاقتصاد، والعمل، والمجال العام؛ حيث يبدو أن تلك القضايا تكشف الخلل البنيوي وتدل عليه على المديين القريب والمتوسط. هذه الإشكالات لا تعني بالضرورة كل المشكلة، ولا يُعَدُّ تقويمها صكًّا مضمونًا للإصلاح، بقدر ما هي محاولة للتفكير بصوت مسموع؛ إذ لا يخفى على أحد أن طريق التغيير والإصلاح طويل وشاق، ويحتاج إلى الاعتراف بالخلل أولًا، ويستوجب الصبر والعمل المخلص الدؤوب على تدارك أخطاء الماضي بالحوار والتفكير في الفضاء الرحب ثانيًا.
الدستور
يرى الباحث أن السلطة السياسية المركزية في عُمان لم ترغب بإتاحة الفرصة لميلاد مفهوم للدولة يُبنى على صيغة تعاقد اجتماعي بين شعبٍ يُفوِّض بإرادته الحرة وبين فرد أو جماعة تُدير شؤونهم العامة، وتضمن حرياتهم الفردية متذرعةً بـ”الوحدة الوطنية” تارة (كما حدث إبَّان حرب الجبل الأخضر، عام 1958، وثورة الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي خلال الفترة (1965-1975)) أو بذريعة “النضج السياسي” تارة أخرى (كما حدث في مطلع العام (1970، أو بذريعة “أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية”. إن هذا التأجيل -رغم كل التقدم المُحرَز على مستوى دليل التنمية البشرية- والذي تحقَّق نتيجة تعاون الشعب مع القيادة، أنتج في المقابل: مؤسسة تنفيذية، أمنية، رعوية، غدت جهازًا مُرعبًا لا يحق للناس محاسبته، ولا نقده، ولا التفكير في تطويره. بل استطاع أن يقلب معايير الفهم لدى كثير من الناس؛ فغدا الواجبُ فضلًا وزيادة، تتكرم به السلطة على “رعاياها”.
- الأمن
يستحوذ قطاع الدفاع والأمن الوطني على أكثر من 30% من موازنة المصروفات السنوية العُمانية؛ حيث وصلت ميزانيَّة هذا القطاع منفردًا في العام 2011 مبلغًا وقدره (أكثر من 4 مليارات دولار أميركي) أي ما يعادل 1.65 مليار ريال عُماني، وغيَّب هذا التمكين الأمني كما يرى الباحث مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الراسخة كالبرلمان والقضاء، ولم يسمح إلا بإنشاء هياكل شكلية في كافة القطاعات تحت نظر وسيطرة المؤسسة الأمنية. كما جرى تعطيل الإرادة السياسية لدى المواطنين من خلال ضرب الثقة في أي عمل وطني خارج إذن وسيطرة المؤسسة الأمنية، التي تحكمت بالرأي العام وأجادت تشتيت اهتماماته بتصريحات وقضايا هامشية؛ الأمر الذي تجاوزت فيه هذه الأجهزة دورها الوظيفي القائم على تجفيف منابع التآمر الداخلي والخارجي، إلى أن أصبحت محور أساس في وضع السياسات وتنفيذها، والاستحواذ على الفرص والثروات؛ حيث تُمسك شبكاتُها ورجالاتُها، المتقاعدون أو الذين على رأس عملهم، بعصب الاقتصاد والإعلام والتعليم والسلك الدبلوماسي والأكاديمي من باب حرية السوق وإتاحة الفرص للجميع، بينما هي، كأجهزة، تمتلك الحماية والانحياز والمعلومات. - التعليم
لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على التعليم في سلطنة عُمان أكثر من 8,7%، كما تبيِّنه أرقام العام 2014 الرسمية ورغم النقلات الكمية المشهودة في هذا القطاع خلال العقود الأربعة الماضية كأعداد المدارس والطلبة والمعاهد، وتوزُّع مؤسسات التعليم المختلفة، يذكر الكاتب أن المأزق الكبير الذي يواجه البلاد هو في نوع وجودة هذا التعليم لا في كمِّه وعدده. فعلاوة على ضعف المناهج وعدم مواكبتها لأسئلة العصر المتجددة، والتقتير على تكوين وتدريب المعلم بوصفه محور العملية التعليمية، تبرز وسائل التحكم والسيطرة التي تمارسها السلطة على هذا القطاع منذ السنوات الأولى للدراسة إلى المراحل الجامعية والدراسات العليا. فلا وجود يُذكَر في المناهج لتعليم ثقافة سياسية، ولا يتم تعليم مواد الفلسفة والمسرح والفنون الحُرة بشكل نظامي. كما يندر تناول أفكار المواطنة والحرية وثقافة حقوق الإنسان بشكل منهجي في النظام التعليمي العُماني.، إضافة لغياب أي دور نقابي مُنظَّم للمعلمين على كافة المستويات، أو أي نشاط لاتحادات طلابية في الجامعات والكليات المختلفة.
- الاقتصاد والعمل
يعاني الاقتصاد الوطني العُماني من أزمة هيكلية مُزمنة لاعتماده الرئيس على إيرادات النفط والتي تشكِّل 86% من إجمالي دخل الحكومة، كما توضحه أرقام المركز الوطني للإحصاء.وفي ظل الاهتزازات الكبيرة التي تشهدها سوق الطاقة فقد تراجعت مساهمة إيرادات النفط في الموازنة العامة للدولة بما نسبته 46%، في سبتمبر 2015، أي ما يعادل النصف عمَّا ساهم به في العام الذي سبقه 2014 .
ومن وجهة نظر الباحث يقع المواطن العُماني تحت ضغوط اقتصادية متزايدة؛ فمستوى دخله لا يتناسب مع مستويات التضخم المتصاعدة، ويواجه عدم عدالة في توزيع الدخل؛ إذ إن هناك تباينًا كبيرًا بين نصيب الفرد العُماني من إجمالي الدخل القومي وبين مستوى دخله الحقيقي، يصل إلى ثلاثة أضعاف؛ مما أدَّى إلى تزايد نسبة الفقر؛ الأمر الذي يضع مسألة السلم الوطني والعدالة الاجتماعية على المحك. وما كانت احتجاجات 2011 إلا مقدمة “سلمية” و”ناعمة” لموجات قادمة من الاحتجاج والرفض قد تتطور بالتراكم والتجاهل إلى عواقب وخيمة.
أمَّا قطاع التشغيل فيشهد – كما يرى الباحث- “تشوهات هيكلية”، وتراكمات مؤجَّلة نتيجة سياسات فاشلة في حُسن استثمار “الهِبة السكانية” التي تتمتع بها البلاد، خاصة وأن أكثر من نصف عدد السكان من الشباب في مرحلة العمل والعطاء. ولم تنجح القرارات اللحظية باستيعاب العمالة الوطنية والتي استخدمتها السلطة لامتصاص تمدد الاحتجاجات الغاضبة في مطلع العام 2011، بل على العكس تمامًا؛ حيث عمَّقت تلك السياسة تأزم سوق العمل على المستوى الجذري؛ كما شهد موقع عُمان تراجعًا كبيرًا في مؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي 2015/2016، وهو مؤشر يقيس قوة اقتصادات الدول من خلال تنوعه، وقدرته على المنافسة، والثقة في جذب الاستثمارات، والتأسيس المُيَسر للمشروعات، وزيادة الإنتاج، وتعزيز مستويات المعيشة للأفراد والمجتمع. فقد جاءت عُمان في المركز الـ62 عالميًّا متراجعة 16 مركزًا عن تقرير عام 2014/2015، و29 مركزًا عن العام الذي سبقه.
- المجال العام
يتجلى أبرز مظاهر الحصار والسيطرة التي مارستها السلطة السياسية المركزية في عُمان في المجال العام بكل قطاعاته عمومًا.ورغم استماتة السلطة في عدم الظهور بمظهر القامع للحريات العامة، وحرصها على إظهار صورتها بشكل حضاري، عملت السلطة – بحسب الباحث- بشكل مُنظم ودؤوب على إعادة الوضع الساكن إلى ما قبل حراك عام 2011، داعمةً تحركها المضاد، وحصارها الممنهج بنتائج “الثورات المضادة” في بلدان الربيع العربي كمصر وليبيا وتونس واليمن مذكِّرةً المجتمع وأفراده في خطابها الرسمي الإعلامي والديني والثقافي بالعواقب الوخيمة التي تعانيها هذه المجتمعات من جرَّاء السكوت أو التهاون مع أفكار وممارسات الحراك الثوري التي اجتاحتها. لذلك، لجأت السلطة إلى أساليب “مبتكرة” للحدِّ من توسع الحراك المدني والثقافي، خاصة في كل ما يتعلق بالشأن الفكري والسياسي.
مستقبل التغيير
يرى الباحث أن مستقبل التغيير في عُمان اليوم، لن يكون مرتبطًا بإرادة الشعب في التغيير فحسب بل بالقدرة على هذا التغيير. إن الهوَّة الصعبة بين الرغبة والقدرة يمكن ردمها بالتالي:
- دستور وطني: فالسُلطة، أي سُلطة تحتاج لكي تعيش وتنجح إلى “التوافق”، الذي هو أصل وحدتها وقوتها وكفاءتها. من هنا، تنبع آلية التعاقد بين الناس لإدارة شؤون الدولة. ولا يمكن للسُلطة السياسية في عُمان تجاهل المطالبات بدستور وطني، يمثِّل الشعب فيه مصدر السلطات، ويمارسها عبر مؤسسات مستقلة، تراقب وتحاسب بعضها البعض، وتحمي من خلاله قيم المواطنة والعدالة والمساواة والتعددية، وتوفر الاستدامة لها سواء على مستوى النصوص أو الممارسات.
- أمن إنساني: المفهوم التقليدي للأمن القائم على المراقبة والتحكم والسيطرة واختراق الحياة الشخصية للناس، تجاوزته المجتمعات المتقدمة منذ زمن إلى مفهوم أوسع وأرحم للأمن الإنساني. فالأمن الذي يخدم الدولة ويرقى بها ليس أمن الدولة إنما هو أمن الإنسان المنطلق من محورية أن الإنسان قيمة لذاته. يُوفَّر له كل السبل الكفيلة بأمنه الاقتصادي والتعليمي والسياسي والغذائي والصحي والبيئي والثقافي، وحمايته من أي عنف يطوله سواء من غيره من الأفراد أو من مؤسسات الدولة ذاتها.
- تعليم عصري: البلاد في حاجة إلى تعليم مدني، يضع معايير جودة مخرجاته نصب عينيه، يُكوِّن الأجيال القادمة تكوينًا معرفيًّا على ثقافة السؤال والنقد والبحث العلمي الجاد. تعليم يحببهم في الفن والجمال والفلسفة كمعطيات ضرورية لفهم الحياة والوجود، ويغرس فيهم القيم الأخلاقية الإنسانية الكبرى والمشتركة مع باقي الناس في هذا العالم؛ قيم الحرية والعدالة والمساواة والتعددية والحوار وقبول المختلف من الثقافات والأراء والأديان.
- اقتصاد المعرفة: أوضحت تجربة العقود الماضية كارثية الاعتماد الكلي على مصدر أوحد وناضب كالنفط. ولن ينجو أي اقتصاد من مقامرات العرض والطلب والتعرض لمخاطر الإفلاس والكساد والتضخم وسحق حياة البشر إلا بالاستثمار في الإنسان. إن بناء اقتصاد وطني قائم على المعرفة؛ تأهيلًا، وبحثًا، وإنتاجًا؛ يستوجب بالضرورة الإيمان بدولة الحقوق والحريات، التي تصون المال العام، وتحمي تبديده على الامتيازات، وتستثمر فوائضه، وتوجهه توجيهًا راشدًا لحياة الناس، وتذلِّل كل التحديات من أجل تعليمهم وصحتهم وبحثهم وإنتاجهم.
- مجتمع مدني فاعل: التغيير لا يأتي إلا بالعمل، والتحول الديمقراطي للدول هو نتيجة تراكم مهارات مكتسبة لمجتمعه المدني وأفراده. جميع المعوقات الموضوعة من قبل السلطة اليوم في وجه نمو طبيعي وآمن للمجتمع المدني العُماني ينبغي ألا تتحول إلى معوقات للتقدم والنضال من أجل التغيير بل هي تحديات تُحفز العاملين في هذا المقام لمواصلة اجتراح أفكار جديدة ومبتكرة ومستدامة لأجل التغيير المنشود.
وفي ختام الورقة يقول الباحث “يدرك العُمانيون اليوم أنهم يملكون جملة من المقومات تُعزز محورية إرادتهم الشعبية في مستقبل عملية التغيير في بلادهم؛ فالانسجام والتعايش الذي تعيشه مختلف شرائح المجتمع -في وسط محيط إقليمي هائج- يُمكِّنهم من بناء دولتهم المدنية المتسامية على الطائفية والقبلية والمذهبية. السلم الاجتماعي، والوئام الوطني، والتنمية البشرية المعقولة التي عاشها الناس طوال حكم السلطان قابوس خلال الـ 45 عامًا الماضية يُمكن البناء عليها كأساسات متينة ومستقرة للبدء في تأسيس دولة الحقوق والحريات، لا بانتظار قرار فوقي من ذات السلطة، التي تروِّج أن الشعب “لم ينضج بعد”، ولا بفعل تدخل خارجي لن يكون مجانيًّا بالتأكيد، ولا بانتظار ذات الفئات المنتفعة من الوضع الحالي. بل بمواصلة النضال السلمي، ونحت ثقافة سياسية ملتزمة بحقوق الإنسان المدنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحماية مصالحه العامة وفرص أجياله القادمة”.
مسقط – البلد