د. سيف بن ناصر المعمري
لم أكن مبالغاً عندما قلت إننا نمر بمرحلة “عجز تعليمي” عندما سألني مقدم برنامج شؤون الساعة خلال الأسبوع الماضي، كيف تُقيّم وضع التعليم بعد كل الأحاديث عنه خلال هذه السنوات، وأنّ هذا العجز يؤدي إلى تداعيات أعمق من تلك التي يمكن أن يؤدي إليها العجز النفطي المحتمل كمصدر رئيسي للدخل الوطني، فالعجز التعليمي يؤدي إلى ضعف إمكانات قطاع كبير من الجيل الذي نعول عليه ليقود نهضة البلد في مختلف القطاعات بما فيها القطاع النفطي، الذي يحتاج اليوم إلى عمانيين مخلصين يحافظون عليه من أيدي العابثين الذين تنظر المحكمة إلى (26) قضية فقط من القضايا التي اقترفوها في هذا القطاع الذي كان المواطن يعتقد أنّه قطاع سيادي ومحصن ضد كل شيء يمكن أن يمس القطاعات الأخرى، ولذا عندما يكون المورد البشري قوياً في انتمائه ومواطنته وتعليمه يمكن أن يعوض ضعف إنتاجية الموارد الأخرى بل ويحافظ على ما يأتي منها، فالتقدم لا تصنعه الموارد الطبيعية وحدها كما يعتقد بعضنا، إنما يصنعه معها الإنسان المؤهل والمدرب والمعد للمستقبل وتغيراته وتحدياته.
فالتعليم بمختلف مستوياته يعاني كثيرا من الإشكاليات التي تدفعنا إلى الشعور بأنّه “رجل عمان المريض” الذي لم تجدِ محاولات علاجه ببعض المهدئات والمسكنات والعمليات البسيطة خلال السنوات القليلة السابقة في التغلب على مرضه الذي انتشر وتسبب في أمراض أخرى كان يمكن تلافيها لو توافرت لدى أهله إرادة علاجه، لكن يبدو أننا حتى الآن غير مقتنعين بأنّ هذا الرجل مريض، حتى نتحلى بالشجاعة للاعتراف بالأمراض التي يعاني منها، ولو استمر تسترنا على مرضه، وعلى ضعف الأطباء المشرفين على علاجه، فإننا نعرض غالبية المواطنين للمعاناة فترة طويلة، وهو نفس القدر الذي ستعاني منه القطاعات الخدمية والإنتاجية التي تحتاج إلى كفاءات لا إلى شهادات، وإلى إخلاص قبل المهارات.
أنا لست الوحيد الذي يعرف هذا الواقع جيداً، ويعي أنّ أوراق التعليم مبعثرة جداً، بعضها يمكن قراءته، وآخر لا يمكن، ولو قرأنا فإننا نقلب الصفحة ولا نعود إليها بعد ذلك، لذا نحتاج اليوم أن نفتح كل الأوراق المتعلقة بالتعليم، فمن حقنا أن يحصل أولادنا على تعليم جيد، وحق وطننا أن تكون به مؤسسات تعليمية ذات سمعة عالمية، وحقنا أن تدار أموال التعليم بشكل جيد، وحقنا أن توجد رقابة على مؤسسات التعليم، وعلى برامجه، وخططه، وحقنا أن تكون هذه المؤسسات هي الأفضل في الدولة بدلاً من أن تكون متأخرة عن بقيّة المؤسسات التي طالما اشتكت من عدم مواكبة مخرجاتها لمستوى الوظائف التي تقدمها، حقنا أن تتزايد نسبة المؤسسات التعليمية الحكومية بدلاً من الاتجاه الحالي الذي يشهد تزايدا في نسبة المؤسسات التعليمية الخاصة، العملية ليست توفير خيارات، فالتعليم ليس سوقاً يعرض سلع بطرق مختلفة فحسب، إنّما هو أساس لنهضتنا وتقدمنا ولابد أن تُتاح لجميع المواطنين فرص متساوية للحصول على تعليم جيد، حقنا أن تُقيّم مؤسسات التعليم على الإنجاز والإخفاق على فترات متقاربة لتصحيح المسار في وقته.
حقنا اليوم – وليس غداً- أن نعرف إجابات على مجموعة كبيرة من الأسئلة لأننا نريد أن نكون متفائلين عندما نتحدث عن التعليم، ولذلك نبحث عن إجابات يمكن أن تقدمها الجهات المعنية، حول ضمان تحقيق هدف التعليم الذي حدد في المادة (13) من النظام الأساسي للدولة الذي ينص على الآتي:”يهدف التعليم إلى رفع المستوى الثقافي العام وتطويره وتنمية التفكير العلمي، وإذكاء روح البحث، وتلبية متطلبات الخطط الاقتصادية والاجتماعية، وإيجاد جيل قوي في بنيته وأخلاقه، يعتز بأمته ووطنه وتراثه، ويحافظ على منجزاته”، نريد أن نعرف حتى نستطيع أن نتخلص من تشاؤمنا حول تطوير التعليم، حقنا الآتي:
- نريد أن نعرف المؤسسة المرجعية التي كُلّفت خلال هذه السنوات بوضع سياسة تعليمية واحدة، تعمل المؤسسات التعليمية وفقها؛ مما يوحد البرامج والمتطلبات ويقلل من التخبط والتكرار والعشوائية.
- نريد أن نعرف التشريعات التي وضعت من أجل تنظيم قطاع التعليم، وتحديد حقوق وواجبات العاملين به، وقانون التعليم، وقانون عمل المؤسسات الخاصة بمختلف مستوياتها، وتنظم قواعد الإشراف والمحاسبة.
- نريد أن نعرف الجهة التي تتولى عملية المحاسبة في قطاع التعليم، هل هو مجلس التعليم؟ أم وزارة التعليم العالي؟ أم الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي؟ أم مجلس الشورى؟ أم المديريات العامة المشرفة على الكليات التطبيقية أو التقنية أو المعاهد الصحية؟ وما القانون الذي تستند إليه؟ وما نتيجة هذه المحاسبة؟ هل أغلقت كلية واحدة أو أوقفت البعثات إلى جامعة واحدة نتيجة عدم التزامها بالجودة في برامجها؟ كم من هذه المؤسسات لا توفر عددا كافيا من المدرسين لطلبتها؟ كم منها لا يوفر متطلبات كافية لبرامج الدراسات العليا؟ نريد أن نعرف منكم لأنّ هذه المؤشرات مهمة جداً لإبراز التقدم في تطوير التعليم.
- نريد أن نعرف نتائج عملية تقييم التعليم التي دعا إليها قائد البلاد المفدى منذ ثلاث سنوات، هل تمت وفق ما أمر بها القائد أم لم تجر في الأساس؟ وإذا أجريت فما النتائج التي توصلت إليها؟ وإن لم تجر فعلى أي أساس تستند اليوم عمليات تطوير التعليم؟
- نريد أن نعرف دور مجلس الشورى ومجلس الدولة في توجيه مسار تطوير التعليم، وهما الجهتان اللتان تمتلكان لجانا للتربية والتعليم، والجهتان اللتان استضافتا المسؤولين عن مؤسسات التعليم خلال السنوات الماضية؟ هل اطلعت على استراتجيات وخطط تطوير التعليم قبل تنفيذها؟ هل اطلعت على خطط تطوير المناهج؟ هل كانت مُرضية ؟ هل تمّ الأخذ برأيكم في تعديلها؟ هل تستطيع لجان التربية لديكم أن تقدم نقاطًا ملموسة تبرهن على التقدم في ملف التعليم؟ نريد أن نعرف من فضلكم لأننا لم نتمكن من معرفة أكثر مما دار في جلستي صاحبتي المعالي وزيرة التربية والتعليم ووزيرة التعليم العالي.
- نريد أن نعرف عن البعثات التي تقدمها البلد اليوم، هل في تخصصات تحتاجها البلد في المرحلة القادمة أم لا؟ هل يتواجد هؤلاء المبتعثون في أفضل جامعات العالم؟ ما تكاليف هذه البعثات؟ هل ينجز المبتعثون دراستهم في الوقت المحدد؟ نريد أن نعرف فهؤلاء إذا ما أحسن توجيههم سوف يعززون من مسار التنمية؟
- نريد أن نعرف عن التعمين في مؤسسات التعليم العالي؟ هل هو مرضٍ في ظل تعدد الكليات والجامعات والبرامج؟ هل تتاح فرص للكوادر العمانية المؤهلة للانضمام إلى هذه المؤسسات؟ ما هي رؤية هذه المؤسسات لزيادة نسبة الكوادر الوطنية؟ ما هي خريطة توزيع هذه الكوادر اليوم في مختلف المؤسسات؟
“نريد أن نعرف” هو الشعار الذي يجب أن نرفعه هذا العام عند حديثنا عن التعليم، نريد أولاً أن نعرف إلى متى سيظل هذا الرجل مريضاً؟ ونريد أن نعرف ثانياً إجابات عن هذه الأسئلة وغيرها، ونريد ثالثاً أن نعرف إلى أين نتجه في تعليمنا، ونريد رابعاً أن نعرف ما الحل للخروج من هذا الواقع، هل نسافر برجلنا المريض في رحلة خارجية للعلاج؟ وماذا لو كانت الوصفة تناسب المرض لكننا لم نلتزم بها؟ عندها نحتاج إمّا أن نلجأ إلى العلاج الشعبي وهو “الكي” أو نلجأ إلى علاج بعض مستشفياتنا وهو “البتر”، إذا قررنا اللجوء إلى أحد هذين العلاجين هل نمتلك الإرادة لنقوم بذلك؟
ومن أجل أن نعرف لابد أن نتبنى بعض الآليات في هذه المرحلة أهمها عمل مناظرات مع المسؤولين عن مؤسسات التعليم لاستجلاء بعض الحقائق التي لا يزال البعض يجادل فيها، وعمل استفتاء شعبي حول مستوى أداء هذه المؤسسات، وإنشاء جهة لتصنيف هذه المؤسسات سنويا حسب جودتها، وتأسيس مرصد تعليمي يتولى عملية توفير البيانات، وتوثيق الإنجازات والإخفاقات، ولابد لتحفيز تطوير التعليم من تخصيص جائزة سنوية باسم صاحب الجلالة السلطان المعظم للتمييز في مؤسسات التعليم العالي تمنح وفق معايير عالية للمؤسسة التي تحقق شروط الجودة، كل هذا وذاك لا يغني عن التأكيد على البدء بعلاج عنصري الإدارة والإرادة اللذين لا يمكن بدونهما أن يشفى رجل عمان المريض.
سيف المعمري
فعلا ، التعليم في تراجع ..
لو كشفت وزارة التربية عن بيانات واحصاءات الطلبة من حيث نسب النجاح والرسوب والدرجات بمختلف المراحل لوجدنا ان النسب تراجعت بشكل كبير
اتمنى ان تقام ندوة وطنية للوقوف على هموم هذا القطاع ..
مقال جيد يطرح الكثير من التساؤلات حول التعليم في عمان، وأرجو يا دكتور سيف أن تتناول في مقال لاحق قضية الدروس الخصوصية التي بدأت تنتشر كالسرطان في جسد التعليم في عمان.. مع تحياتي لك
مقال يحاكي واقع التعليم في السلطنة بحياد ورؤية دقيقة