“ومضات مدنية”: العدالة الاجتماعية..استقرار واستدامة

٢٠١٢١٠٢٠-١٠١٩٤١.jpg

أحمد بن علي بن محمد المخيني*

العدالة والإنصاف مفهومان متلازمان وإن لم يكونا متطابقين، ولقد أخذ مصطلح العدالة الاجتماعية حيزا كبيرا في المناقشات
السياسية والفكرية عربيا وعالميا لا سيما مؤخرا. ويمكن تعريف العدالة الاجتماعية عموما بأنها مجموعة القيم والإجراءات المؤسسية وشبكات الأمان الاجتماعي الموجهة لحماية فئات المجتمع الأقل حظا أو الأكثر هشاشة وعرضة للمخاطر من الظلم الاجتماعي أو الاقتصادي الواقع أو المحتمل. ويضم ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الضمان الاجتماعي، الإسكان الاجتماعي، الزكاة، الضرائب، المنح والبعثات الدراسية، وبرامج الدعم الاقتصادية ، والمساعدات المالية والاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك.

والعدالة الاجتماعية لا تعني قطعا الإطعام وسد الأفواه الجائعة واحتياجاتها فحسب مبقين أصحابها على الدوام في ربقة الحاجة ، بل تعني في المقام الأول تمكين هذه الفئات وهذه الأفواه من القيام على شؤونها بنفسها من خلال: ضمان متطلبات العيش الكريم الأساسية ، والمساواة في المعاملة، وتكافؤ الفرص ؛ حتى تتمكن هذه النفوس البشرية من العمل جديا على تخليص مصائرها من المستقبل المضني الذي ينتظرها. وتعني في المقام الثاني الحد من زيادة أفراد المجتمع ضمن هذه الشريحة، من خلال قياس التأثيرات المجتمعية لأي قانون يسن أو سياسة تقرر أو مشروع يوافق عليه ، وإيجاد خطوات وإجراءات تحد من هذه التأثيرات إن لم تمنعها، على أن يكون هذا القياس بداية في مرحلة التخطيط والموافقات مرورا بمرحلة التنفيذ وطوال المرحلة التي تعقب التنفيذ، والعمل على أن تكون عمليات العدالة الاجتماعية من تمكين وقياس ومتابعة مجسدة قانونيا وتطبيقا فعليا.

إلا أن العدالة الاجتماعية – مع صميم الحاجة إليها – تركت العديد من المجتمعات في حيرة من أمرها من حيث الإلزامية والآلية المناسبة لتحقيق العدالة، فمن الناس من يرى أن الأمر يجب أن يترك للفرد وليس للدولة التدخل في عملية إعادة التوزيع، ومنهم من يرى أن للدولة دور أساسي في ضمان العدالة الاجتماعية، ومع الاختلاف في النظرات السياسية والاقتصادية والثقافية بين المجتمعات والفئات الإنسانية إلا أنها أجمعت على أنه لا يمكن أن تترك العدالة الاجتماعية تحت رحمة الظروف الاقتصادية والأمزجة السياسية، بل كان واجبا أن تنظم قانونيا بحيث يتم ضمان قيام الحد الأدنى من عملياتها مع إيجاد مؤسسات مشرفة وأخرى مكملة وغيرها مراقبة.

ومن نافلة القول أن العدالة الاجتماعية مفهوم أصيل في الفكر الاجتماعي الإسلامي كما هو أصيل في الفكر الاجتماعي المدني ، فلا تناقض بينهما البتة في أصالته وارتباطه باستقرار المجتمع واستدامة نسيجه ، وعند توسع أمر الدولة الإسلامية برز مفهوم الحسبة ليعبر عن ما نسميه الآن عمليات الرصد والتقويم والمتابعة للحركة الاقتصادية والاجتماعية، وأوكل للمحتسب ما يتناسب مع غرض وظيفته من صلاحيات للثواب والعقاب، مقيما للعدل أوده، وكما قيل حيثما يقام العدل تكون شريعة الله الحق.

وتستمد العدالة الاجتماعية أهميتها من منابع ثلاثة. المنبع الأول أنها لصيقة بمفهوم المسؤولية الاجتماعية المتبادلة بين الفرد والمجتمع ، وأن ضياع فرد من المجتمع دون أية مبالاة من أفراد المجتمع الآخرين ومؤسساته نذير بأفول المجتمع أو تهالك نسيجه الواقي ذلك لأن الفرد يحس حينها بفقدان الانتماء للمجموعة وقد لا يلقي بالا لمصالحها، أو على الأقل يترك هذا الانطباع عند أفراد المجتمع مما يسبب في تفكيكه والإحساس بالظلم.

أما المنبع الثاني فالضرورة الاقتصادية لتنشيط جميع أعضاء المجتمع، فمتى ما كان أعضاء المجتمع وأفراده جميعا نشطين اقتصاديا سواء كمستهلكين أو منتجين أدى ذلك إلى ازدهار اقتصادي يعود على الجميع بالنفع، ولكن إذا ما أقصيت فئة من القيام بدورها في هذه الدورة الاقتصادية فإن ذلك سيعطل لا محالة شريحة من المجتمع دون دورهم المنشود سواء كمنتجين أو مستهلكين.
أما المنبع الثالث فالضرورة الإنسانية الأخلاقية الصرفة، التي تتطلب من الإنسان أن يسعى إلى تحقيق العدالة من حوله إذا ما رأى أن الظروف المحيطة لم تتمكن من تحقيق ذلك، وذلك من منظور إنسانيته فقط التي تسعى بفطرتها إلى الفضيلة والعدل والتشارك.
ومن هنا فإن العدالة الاجتماعية ترتبط وجودا بالإنسان وتفاوت ظروفه ، وهي سبب محوري في استقرار المجتمعات واستدامة تماسك نسيجها ، وبالمثل فإن غياب العدالة الاجتماعية والإحساس بالظلم الاجتماعي سبب جوهري في انفراط العقد الاجتماعي الذي ينتظمنا جميعا.

* باحث مستقل مهتم بالشئون السياسية وحقوق الإنسان والحوار
تواصل مع الكاتب: jicfa@yahoo.com