يعتبر العنف من أكثر المظاهر المسيطرة على الطبيعية البشرية، وقد اختلف علماء النفس والفلاسفة في قوة تأثير العنف على الطبيعة البشرية وهل هي متأصلة في الجينات الوراثية أو مكتسبة من البيئة التي حول الإنسان، وأرجح هنا في كون أن كل إنسان له طبيعة عنيفة تظهر عندما يرغب بالوصول إلى نقطة معينة في ما يجول في فكره من أفكار أو أحلام أو طموح لم تتحقق، فهناك العنف الجسدي والعنف النفسي الذي أظهرت أن البشر قادرين على التفنن في إظهارها بوحشية عنيفة تدل على أن الإنسان يتأثر بسلم التطور الحيواني الذي مر به، وغالباً ما يمارسه كل إنسان بصورة لا واعية، عن طريق توجيهه للآخرين أو لذاته ( اللفظي أو النفسي أو الجسدي).
المدهش في الأمر أن مشاهد العنف أصبحت أكثر ظهوراً وعنفاً في الوقت الحالي وخاصة في المناطق التي تفتقر إلى متنفس للطاقة العصبية أو تكون ذواتها مغيبة ومشتتة وغير واعية ومدركة لحاجتها، فيصبح العنف نوع من الثقافة المقدسة المرتبطة بأفكار ترغب بأثبات رأي الجماعة المسيطرة عليها، وتصبح كالوعاء الذي يسكب فيه ما تشاء تلك الجماعة من أفكار إرهابية وعدوانية، وبالرغم من أن أكثر المجتمعات بدائية هي أكثر المجتمعات سلمية ولكن تلك المجتمعات قد تخضع لسيطرة الخوف فتصبح مكان مثالي يقام فيه التجارب لأنواع الأسلحة المتطورة التي تتناسب مع قوة ثقافة العنف، فهذه المجتمعات البدائية والفقيرة تكون في أشد الحاجة للغذاء أو لملء وقت فراغها ، وحين يهدد الغذاء أو يملأ الفراغ بمبادئ العنف تصبح هذه المجتمعات مسيرة لأجله، وكل هذا بسبب قوة الأعلام في إظهار عنف جماعة أو التستر على عنف جماعة أخرى، كلن بحسب المصالح المرجوة منها، وهذه المصالح السلطوية هي أكبر عنف قد يمارس ضد هذه المجتمعات المغيبة عن ثقافة الفرد والعلم والاختلاف.
الدليل بكون البشر طبيعتهم عنيفة في أن أكثر الدول تنفق كميات ضخمة من المال لأجل الجيش والشرطة والسجون بعكس ما تنفقه على السلام الذي لا يذكر ولا يظهر، فتنتشر أفكار تسبب في قيام الحروب ( كالعنصرية والتعصب الديني والفقر والخوف) لأطلاق وحش العنف الرابض بدواخلهم، والمتعطش للدماء أكثر من السلام، وهنا يأتي دور الأعلام في ترسيخ تلك الحاجة للعنف في النفس البشرية، وهذا ما يجعلني أشبه حالة الأعلام بحالة المدرج الروماني ( The Colosseum) التي كانت تتم فيه المصارعات والتي تنتهي بالضرورة بمقتل أحد المقاتلين فيها، أو بالمصارعة بين السجناء المحبوسين في السجون الرومانية وبين الحيوانات المفترسة، بصورة بشعة وشرسة، لم أكن أستوعب أو أتقبل فيه نفسية الجماهير التي تتابع تلك المشاهد الحية المخيفة والعنيفة على مرى منهم في تلك الفترة التاريخية، والذين كانوا يهتفون فيها للمزيد من إراقة الدماء أو المطالبة بالمزيد من العنف، حتى وجدت مقارنة أستطيع عن طريقها معرفة تلك النفسية البشرية ومقارنتها مع ما يحدث الآن من تقبل للعنف.
المشاهد التي تعرض الآن في شاشات التلفاز أو الأنترنت، جعلت من مشاعر المشاهد متجمدة ميتة لا تتأثر بالقتل والحروب والدماء، بل تصبح مشاهد اعتيادية لا يتضايق منها أحد، وهي لا تثور إلا أن زادت حدة العنف، ولكن تلك الثورة تتلاشى ما أن يقلب القناة إلى قناة أخرى أو يغلق الشاشة، وهذا أن يدل فأنه يدل على قدرة البشر في التأقلم السريع مع مشاعر العنف والموت واعتيادهم عليها بصورة سريعة، ويصبح السلام نوع من الترف الجامد الغير مبهر أو المستساغ لديهم، وربما يعود ذلك إلى أن الأعلام يتحكم بنشر ما يرغب من نفسيات وأفكار لهؤلاء المغيبون عن الوعي.
أغلب الحضارات والثقافات حاولت أن تبعد مشاعر العنف عن البشرية، فهي بعد كل فترة هدوء وسلام تكرس مفهوم الإنسانية، مع العلم أن تلك الحضارات قامت عن طريق العنف والحروب، وربما يكون هذا كنوع من التكفير عن ما تم خلال تلك المرحلة ما قبل السكون والهدوء، فيتحول مسمى العنف إلى شأن فردي لكل معترض لسلطتها، وشأن خاص بالسلام لكل من كان مؤيد لها، وقد يتخذ العنف شكل معين في اغلب المجتمعات بعد ذلك كنوع من الخلاص من الذنوب عن طريق
الممارسات العدوانية لاستمرار غطاء الهدوء والسلام وقاعه ممتلأ بالسرقات والنصب والاحتيال والممارسات اللاإنسانية.
أفضل طريقة للتحكم بالعنف في النفسية البشرية، هي بنشر مبادئ عقلانية تدعو إلى التفكير بصورة تخدم الكل بجميع الاختلافات، فلا يوجد توافق بين العنف والعقلانية، فالممارسات حينما تفتقد العقلانية ستؤدي إلى العنف بالضرورة، ولا سبيل للسيطرة عليها إلا بكبح العدوانية، ولكن للأسف فما دام القهر والتسلط مكرس لدى المجتمعات لكل رأي وحرية فأن العنف سيظل أكثر السلوكيات انتشاراً ما أن تسنح له الفرصة للظهور، ومهما اختلفت توجهاته وطريقته فأن أسبابه تجعل من الإنسانية لا قيمة لها.
عادلة عدي