حمود حمد الشكيلي
في كتابها الأول الصادر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية، تقدم المحامية واستشارية القانون العمانية بسمة مبارك سعيد بحثا رصينًا في “التجربة الدستورية في عمان”. رصانة بحثها ظهرت من خلال التزامها منهجيا طوال فصول الدراسة بنظرية “جويل ميغدال”، لم تحد عن النظرية تقريبا، حتى في الفصول التي سمح الحياد بها، وأحسبها هي الفصول المضافة للبحث المقدم بداية لنيل شهادة علمية، ثم قبل تحوله لكتاب تمت إضافة بحثين منشورين لها في كتابين صدرا قبل كتابها.
بعد التأطيرالنظري المتمثل في نظرية “ميغدال” للدول الضعيفة والمجتمعات القوية” معتبرة- أي النظرية- العلاقة بين الدولة والمجتمع تفاعلية”، وهي إحدى المحركات الرئيسية للحدث السياسي”. بهذا توجد العلاقة التفاعلية صراعا “على السيطرة الاجتماعية”. من يستحوذ أكثر على السيطرة والتحكم بمؤسسات المجتمع يملك زمام الأمور، ثم بعده تكون محصلة الصراع دولة ضعيفة تواجه مجتمعا قويا، أو العكس، مجتمع ضعيف يواجه دولة قوية؟
هذا هو سؤال البحث الذي تواجهه الكاتبة محاولة الحصول على إجابة شافية في سبعة فصول بحثية. بدا أن النتيجة التي خلصت إليها الكاتبة إعلاء شأن وقوة المجتمع أمام ضعف وهشاشة الدولة في قادم السنوات.
تذهب بسمة مبارك إلى دراسة التسلسل التاريخي للدستور، بدءًا من المحاولات الأولى عند طارق بن تيمور، وليس انتهاء بالتعديلات التي شهدها النظام الأساسي للدولة. من هنا قد يطرح بعض قراء الكتاب تساؤلا حول إن كان لهذه البلاد دستور؟ هل يمكن دراسة شيء غير موجود مثلا؟
لا أظن أن الكاتبة لم تنتبه لاختيار عنوانها، أحسبها انتقت عنوان كتابها، يظهر هذا من خلال إعلاء محاولات طارق بن تيمور في إيجاد دستور ملزم ومنظم، أراده في البداية مؤقتا” للمملكة العربية العمانية”.
هذا ما تظهره مؤلفة الكتاب في عتبتها النصية الأولى مؤكدة شأن طارق بن تيمور أول وآخر رئيس وزراء في عمان، من هنا فإن اختيار العنوان مقصودا، ومنتقى لرؤية مستقبلية، إذ ترى أن محاولات طارق وجهوده في إيجاد دستور ” لم تذهب سدى”، حيث تبعتها محاولتان، أقصد عريضتي الدستور التعاقدي اللتين قدمتا من قبل مثقفين وكتاب عمانيين إلى السلطان قابوس بن سعيد. بين محاولة أول رئيس وزراء عماني في إيجاد دستور مع مجموعة من المتعلمين العمانيين في الخارج ومحاولتي الكتاب والمثقفين في عمان عاشت البلاد ست وعشرين عاما دون أن يتم إيجاد دستور ينظم الحياة إلى أن أوجد السلطان النظام الأساسي للدولة عام 1996.
بعده” أي النظام الأساسي للدولة” عاش العمانيون خمسة عشر عاما به، علمًا أنهم لم يشاركوا في صياغته، ولم يشاورهم أحد فيه ، إلى أن أحدث العمانيون تغييرا وقالوا كلمتهم من خلال مطالباتهم في أحداث 2011 فكان أن شهد النظام الأساسي تعديلا طفيفا في بعض بنوده ومواده.
كل هذا تمر عليه الكاتبة بوعي واطلاع عميقين، متسائلة في الأسباب والحاجات. ومناقشة مواطن ضعف وهشاشة النظام الأساسي، مرورا حول ما فيه من ميزات و إيجابيات، كما تناقش أسباب الصمت الذي أبداه السلطان في أول عقدين ونصف من بداية حكمه للبلاد، خاصة وأن أغلب الدساتير عادة ما تسن إبان ثورة، أو بعد حكم جديد. كل هذا نقرأه في سبعة فصول، جاءت مرتبة على النحو الآتي” عمان الدولة القوية/ إطار نظري، دستور طارق: المحاولة الدستورية العمانية الأولى، إصدار النظام الأساسي للدولة: التوقيت والأهداف، عملية صياغة الدستور العماني، السمات الأساسية للنظام الأساسي للدولة، تحليل نقدي للنظام الأساسي( نوفمبر 1996 – أكتوبر 2011 ) ، المعارضة وبداية التغيير).
تطرح فصول الكتاب العديد من الأسئلة، وتناقش كذلك أفكارا و رؤى مختلفة في أحداث النزاع الحاصل بين الأخوين سعيد وطارق، ثم الخلاف الذي استمر مع طارق في ظل حكم ابن أخيه السلطان قابوس، حتى وصل الأمر إلى الحقيقة التي توصل إليها طارق وهي أن الشعب بات يعرف الآن ” أن السلطان قابوس مستبد، رغم أنه أكثر كرما وسخاء من والده”.
من الخلاف الحاصل بين طارق، وأخيه سعيد، ثم مع السلطان قابوس تتوجه الأسئلة حول أسباب فشل طارق بن تيمور في المحاولة الأولى لإرساء حكم ملكي دستوري في عمان، تجملها الكاتبة بين عوامل خارجية تتمثل في مستشاري السلطان قابوس البريطانيين، وأخرى داخلية تراها في الخلاف الحادث بين أفكار ومعتقدات السلطان قابوس وعمه طارق، مع ذكر للعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها البلاد، ثم تنهي فصلها الثاني بدراسة فصول مسودة المحاولة الدستورية الأولى.
ثم في الفصل الثالث تناقش الباحثة قضايا عديدة، أجملها فيما يأتي: الرؤية التي جعلت السلطان قابوس مع بداية حكمه يصرف النظر عن مشروع مقترح طارق، ثم الأسباب التي عجلت من ضرورة أن يوجد السلطان قابوس نظاما لبلاده في عام 1996م، تجملها في ضرورات ملحة وأسباب اقتصادية، وأبعاد دولية، واحتمالية ظهور مشكلة خلافة بعد رحيل السلطان، ثم في الفصل الرابع تناقش الطريقة التي وضع بها النظام الأساسي للدولة، والعملية المغلقة التي اختارها السلطان قابوس في صياغة النظام الأساسي،وفي الفصل الخامس يناقش الكتاب سمات النظام الأساسي من خلال دراسة المؤثرات التي تأثر بها النظام الأساسي، وخواصه الرئيسة، والموضوعات المهمة التي جاءت فيه، تدرس الباحثة الموضوعات دراسة ناقدة، إذ تشير إلى أمور عديدة، من بينها ما قد يحدث من مشاكل في عملية خلافة السلطان، وفي الفصل السادس تقدم تحليلا نقديا في النظام الأساسي” نوفمبر 1996 – أكتوبر 2011″. مشيرة إلى تناقضات تتخلل النظام الأساسي” فالمسؤولية وحدها يتحملها السلطان قابوس، كون أن النظام الأساسي جعله مساءلا دستوريا أمام نفسه عن أداء حكومته، وعن مراقبة أعمالها، أي أن الحكومة مساءلة أمام نفسها.”
والكاتبة تشير إلى أن” هذه النتيجة على غرابتها طبيعية؛ لأن النظام الأساسي فشل في الفصل بين منصبي السلطان ورئيس الوزراء، وفشل في إنشاء مؤسسات قادرة على الموازنة بين بعضها البعض..” ثم تختم كتابها في الفصل السابع بمناقشة المعارضة وبداية التغيير، من خلال مناقشة عريضتي الدستور، العريضة الأولى 2009 ، العريضة الثانية 2011 ، ومناقشة التعديل الدستوري الذي حدث بإلحاح ومطلب من المعتصمين العمانيين في ساحات البلاد شمالا وجنوبا.
هذه أهم القضايا التي ذهبت إليها الكاتبة في كتابها هذا، أحسبه كتابا مهما، لذا فإني هنا أردت الثناء على ما جاء فيه من فصول مهمة، وقد ميزته لغة ساخرة ناقدة. فاستخدام كلمات قد تكون له مدلولات غياب الحرية المشاركة السياسية للإنسان العماني فالبرلمان” مكون من غرفتين..” في مثل هذا الجملة وأخرى غيرها وجدت سخرية اللغة التي كانت تنقد خطاب القانون/ النظام الأساسي.. وهنا أشير إلى ناقلة هذه المادة إلى اللغة العربية زوينة آل توية، موجها لها وللكاتبة تحية شكر على هذا الكتاب القيم، هذا أقل الواجبات التي يجب تقديمها لكل كتاب مفيد، آملا من الجميع الاطلاع عليه، وقراءته قراءة واعية وناقدة، عل الكاتبة تستفيد من قراءتنا لكتابها هذا.