الرجل الذي قضى ردحاً من عمره يطالب لغيره بالحرية يقبع الآن في زنزانته الانفرادية محروماً من أيقونته الكبرى التي لَطالما دافع عنها بالغالي والنفيس وعض عليها بالنواجذ. أستعيده فتتقافز إلى مخيلتي صوره العديدة التي تشكل في مجملها ذلك الإنسان النبيل الذي لا يمكن لمن عرفه من قرب أن يتخيّل أن يجازيه وطنه جزاء سينمار. لم يكن حمود الشكيلي مربي أجيال مهموماً بغرس فضيلة التفكير السليم في تلامذته فحسب، ولم يكن فقط أديبا عمانياً متميزاً وساعياً إلى التجريب والتجديد من كتاب لآخر، كما أنه لم يكن مجرد ممارس للنقد الأدبي وحريص على الكتابة عمّا يعجبه من كُتُب، ولا مجرد ناشط ثقافي يوزع بالتساوي حيويته الفاعلة ونقده الصادق اللاذع على جمعية الكتّاب والنادي الثقافي وأسرة القصة وملحق شرفات. ولم يكن فقط مثقفاً عضوياً لا يحركه تجاه أية قضية إلا ضميره اليقظ وحسّه الإنساني الصادق. لم يكن حمود الشكيلي إلا كل هؤلاء. وإذا شئنا اختصاره في كلمة واحدة فستكون: “إنسان. كان حمود غرامشي عُمانيّاً يسوق “ياريس” ويغني “يارا الـ..جدايلها خضر” ويؤمن أن المثقف ليس مكانه فقط في بطون الكتب وقاعات المحاضرات، ومعارض الكتاب، ولكن أيضاً في الشارع متقدماً الصفوف وحاملاً شعلة التنوير.
يبدأ الشكيلي هذا التنوير من بدايته، من حلقته الأولى التي لا تكتمل بدونها أية حلقات: النشء. ينتمي هذا المعلّم في مدرسة السلطان الخاصة إلى ثلة قليلة ونادرة من المعلّمين العمانيين الذي لا يتعاملون مع التدريس كوظيفة يقتاتون منها، بل كمهنة إنسانية سامية قادرة على تنشئة أجيال واعية. ولذا فقد كان شغله الشاغل تشجيع تلاميذه على القراءة والبحث والتفكير العلمي السليم وصولاً إلى تنمية مواهبهم وصقلها. كان يعوّض نواقص المنهج الدراسي بخبرته الأدبية وقراءاته المتعددة خاصة فيما يتعلق بالأدب العُماني، الذي لم يحضر في المناهج الدراسية العُمانية إلا في السنوات الأخيرة (وكان حمود الشكيلي على ما أذكر أحد هؤلاء المساهمين في ترشيح نصوص أدبية عُمانية صالحة للمناهج الدراسية). ينتقي من الأدب العُماني أمتعه وأسلسه لغةً وأقربه إلى البيئة العُمانية ليقرره على طلابه بشكل غير رسمي، وكان ينقل انطباعات تلاميذه عنه إلى أصدقائه الكتاب وهو يشعر بزهو لأنه فَعَل ما لم تفعله مؤسسات مدججة بالإمكانيات. كان طبيعياً أن نسمع حمود يخبر شقيقاً له في الكتابة : “أُعجِب طلاب السنة التاسعة اليوم بقصتك الفلانية وقررتُ بعدها تعميمها للزملاء على أن يدرسها طلاب السنة الحادية عشر، وافق جميع الزملاء، فإن كنت ترغب في تزويدنا بنسخ تشتريها المدرسة سأبذل جهدي في شراء ما لا يقل عن 120 أو 150 نسخة على أقصى تقدير”، أو يقول لآخر : “إحدى طالباتي تقول إن قصتك هي أجمل قصة رشحتُها لهم هذا العام، وقد اختبرتُهم فيها ، لذا آمل أن تزودني بأي قصة تراها جميلة وقصيرة، سواء أكانت لك أم لآخرين”. ولم يكن مكتفياً بالقصص أو القصائد، بل حتى الأنواع الأدبية الأخرى ، فلأنه يعرف مثلاً أن كتاب “عين وجناح” لمحمد الحارثي من أجمل كتب أدب الرحلات العربية الحديثة فقد كان يصوّر منه لطلابه مقاطع أخاذة ويقرأها معهم في الفصل الدراسي ضمن برنامج IGCSE، ثم بعد القراءة والمناقشة والتحليل يطلب منهم محاولة الكتابة عن رحلات قاموا بها. عدا ذلك فقد كان يدعو هؤلاء الأدباء العمانيين إلى مدرسته وينظم لهم جلسات ودية مع طلابه الذين يطرحون عليهم ما يودّون من أسئلة، ويخرج من هؤلاء محبون للأدب ومحاوِلون للكتابة فيشجعهم بأبوية ويرشدهم إلى ما يمكن أن ينمي موهبتهم من قراءات. وعندما كان محرراً لملحق أقاصي الثقافي المختص بالقصة (بصحبة صديقه الخطاب المزروعي) لم يكن مكتفياً بما يمده به أصدقاؤه وزملاؤه كتّاب القصة العمانيون والعرب، بل ينشر أحياناً شيئا من نتاج تلاميذه تشجيعاً لهم وحثاً على صقل مواهبهم، وهو الأمر الذي أثمر بعد عدة سنوات كتاباً جميلاً من قصص هؤلاء الصغار أشرف حمود نفسه على إعداده وتحريره واختار له عنوان “شعلة حديقة الكلمات”، حاثاً أهالي هؤلاء الموهوبين على “أن يحرصوا على أبنائهم حرص الفلاح على شجرة ينتظر منها بعد الجهد والعناء ثمرا”. ولقد كان الشكيلي الباذر والساقي وممهد التربة وسامدها، لم يكن ذلك المعلم الذي يَعِدُ طلابه بالحلوى ثم ينسى، لأنه يدرك جيداً أن طلابه سيأكلونه هو إن لم يجدوا حلوى يأكلونها، كما كتب أحد هؤلاء الطلاب في إحدى قصص هذا الكتاب.
على أن انهماك حمود بالتدريس وتربية بناته الثلاث ( يارا وريماس والجوري) لم يمنعه أن يكون منخرطاً بكلّه في الشأن العام. لقد آمن حمود الشكيلي بالبسطاء لدرجة أنه بات يكتب بلغتهم لا بلغة المثقفين؛ عندما تحدث عن سجن سمائل في أحد منشوراته في الفيس بوك كتبه “سجن سمايل” ثم علق بين قوسين : “عمدا أبدل همزة النهضة بياء الإنسان العماني البسيط، وهي هكذا في آخر كتاباتي انتصارا لبساطة الإنسان”. هذا الانتصار للبساطة والبسطاء هو ما جعل بطل روايته الوحيدة سائق سيارة أسطوانات غاز، ومعظم أبطال قصصه من البسطاء. يحب البسطاء ويحبونه، منهم من أهداهم قصصه في صدر كتابه كــ”عائشة وابنها حمد”، ومنهم من تربع في هذه القصص كملاذ آمن من البرد والحزن والفقر كالرسام التايلندي ماتي تونغ، ومنهم من ينتظر دوره في قصة تنصفه وتصور مكابداته في الحياة كالنادل المغربي سفيان الذي سأل عنه بقلق عندما سمع بنبأ اعتقاله، كما يروي الكاتب محمود الرحبي.
أما عن انخراط الشكيلي في الشأن الوطني العام فحدث ولا حرج. يكفي أن أقول إنه كان من أوائل الواصلين إلى “ساحة الشعب” في عام 2011 ، وهو ما سيوثقه لاحقاً في كتاب “حياتي قصيدة، وددتُ لو أكتبها” : “كل الحالمين بوطن جميل يعشق أبناءه المخلصين والشرفاء واقفون في الساحة، منها نحاول استرداد البلاد من لصوص النفط والغاز والذهب، في لحظات وصولي إلى هناك في تلك اللحظة، والتي صارت هنا في هذه اللحظة كنا قلة، في حدود العشرة أشخاص، أو أكثر بقليل، كأني أراهم في هذه اللحظة من خلف شاشة الحاسوب، كانت الساعة الثانية وخمسين دقيقة بعد ظهر أول يوم للانتفاضة الشعبية التي لم تكن هينة بالمرة؛ بعد انتشار خبر وفاة أول ضحية في صحار، المواطن البريء عبدالله الغملاسي”، ثم يفتخر الشكيلي بأنه والشاعر محمد الحارثي كانا أول اثنين من الكتّاب الذين ناموا في ساحة الشعب ليلة كاملة؛ “كنا نحرس الوطن من الضياع والنهب والسرقة، كانت ليلة ممتعة برقصات البعوض الذي حلّق فوق الأجساد الحالمة والمنتظرة ولادة وطن جديد؛ لن يولد أبدا إلا بالتضحيات ، (…..) في الصباح استيقظنا نعد آثار لسعات البعوض، ثم من فرح حراسة الوطن في تلك الليلة ذهبنا نشتري للأخوة- جنود الشرف الحالمين مع الكتّاب بوطن جديد ننتظره جميعا- فطائر بيض وساندويتشات فلافل من مقاهي محطة شل المطار”. ثم ما لبث أن استقل سيارته مع الحارثي أيضا إلى “ساحة الحرية” في صور، “كان هدف تلك الرحلة إقناع الناس الحالمين بوطن انتظرنا أن يلده الزمن للعمانيين في 2011 حول ضرورة المشاركة بأسمائهم، توقيعا على مطلب شعبي كبير، يفترض أن يحاسب فيه أولئك الذين قصروا في أداء أمانتهم أو خانوها لمصلحة شخصية” كما كتب في الشهادة ذاتها. وكان الشكيلي قد شارك قبل ذلك في “المسيرة الخضراء” منادياً بالإصلاح ومندداً بالفساد ومطالباً بالعدالة الاجتماعية، وبالحفاظ على كرامة المواطن. كان حمود يؤمن عميقاً بمقولة سيدنا علي بن أبي طالب “لا يستوحشنّك طريق الحق وإن قلّ سالكوه. الحقُّ لا يُعرف بالرجال.. وإنما يُعرف الرّجالُ بالحق.. فاعرفِ الحقَّ تعرفْ أهلَه”. لذا وجدناه لا يتردد في مناصرة كل من رآه على حق حتى وإن كان ضعيف الحيلة وقليل المناصرين، منطلقاً من مُسَلَّمة كتبها في أحد مقالاته ” لا أحد يحب الظلم أبدا، ليس لأنه ظلمات فقط، لكنه مؤذ للأرض التي ينبت فيها ويترعرع”. وهكذا، كان توقيعه قاسماً مشتركاً في معظم البيانات المنددة بالاعتقالات التعسفية أو حبس الصحفيين والكُتّاب أو منع حق التعبير والتجمع السلمي. وكانت مقالاته صادحةً وسابحة عكس تيّار الكتبة والمطبّلين ومن لف لفّهم وسار على طريقهم. ففي الوقت الذي كان كثير من هؤلاء يسلقون عضو مجلس الشورى السجين طالب المعمري بألسنة حداد ( ومنهم من كانوا أصدقاءه) كان الشكيلي من قلة قليلة دافعت عنه، رغم أنه – كما كتب في مقاله “عن طالب المعمري أكتب وأتحدث” – لم يلتق به من قبل وليس بينهما معرفة شخصية.
لكن الرجل الذي قضى ردحاً من عمره يطالب لغيره بالحرية يقبع الآن في زنزانته الانفرادية محروماً من أيقونته الكبرى التي لَطالما دافع عنها بالغالي والنفيس وعض عليها بالنواجذ. أستعيده فتتقافز في مخيلتي عباراته الأخيرة في مقالٍ تضامني من مقالاته التضامنية الكثيرة كان قد كتبه قبل نحو عام بعنوان “بالكرماء معاوية الرواحي يستغيث”، أستعيد كلماته تلك ولكن بتصرّف بسيط يتلاءم مع المناسبة : “ماذا يمكن أن نفعل لأجلك يا حمود؟، لعل كل الكلمات والمواقف لن تنصفك، وقد خذلناك، ومعك خذلنا أنفسنا، وحدها الكتابة حاولت … حاولت كل الكلمات أن تلجأ إليك؛ ساعية لانتشالك من قبضة شرسة ما رحمت بناتك الثلاث”.
سليمان المعمري – كاتب وإعلامي عماني
زين الادب لكل من تسول له نفسه ويدعوا للمظاهرات والخروج على ولي الامر انتم تتشدقون بالحريه الكاذبه على غرار سوريا وليبيا والعراق والشعب برئ منكم ومن افكاركم الهدامه انتم تريدوا ان تنشروا الفوضى والفتن وان يكون الوطن يمتلي بالحقد وفقد الامن والامان كل التحيه لرجال الوطن المخلصين الذي كان لكم بالمرصاد
لكل من تسول له نفسه