“..لكني أراه ينتظر، يلوك الحروف في كلمات تموت داخل فمه، كلمات لا تُسمع، ولا أعرف ما الذي أراد أن يقوله لنا، إلا أنه يتكلم وكأنه لا يتكلم، نرى كل الكلام في فمه، نرى الكلام ولا نسمع شيئا. إني أفكّر فيه، فما الذي سيقوله هذا العماني إذا ما منح فرصة للكلام، هل سيجد فرصة قبل أن تميته الدنيا عن قول ما يريد؟”.
لا يبدو على كاتب هذه الكلمات أنه كان يجهل أو يتجاهل متوالية السجن اللامنتهية التي تعشعش في دواخلنا، السجن الحقيقي والسجن كمجاز،، السجن الذي ينسل سجوناً صغيرة، سجوناً ملونة ومفصلة على مقاسات مخاوفنا، طبقات سجنية تجثم على صدورنا اليوم، طبقة تعلوها طبقات، تعطّل قدراتنا، تُمرّغ حواسنا في قيعان العجز والتخاذل وعدم الاكتراث تجاه ما نشاهده وإزاء ما نكابده من إشكالات ومآزق فردية وجماعية، بتنا مصابين بها، ومعاقين بسببها.
لا يبدو أن مثقفاً بحجم حمود الشكيلي كان غير مدرك لعواقب كلماته، هذه الكلمات التي تشكل عدته الفاعلة، رهانه الأوحد، القيمة القصوى لأي كاتب حقيقي مؤمن بالكتابة ليس كمشروع تنويري لذاته ولغيره فقط، بل وكمسألة وجودية تعطي لحياته الخاصة ولمجموع حيوات الناس من حوله معنىً وغاية. بيد أن حمود فاته أن رهاناً كهذا يتطلب، في حده الأدنى على الأقل، جزءًا يسيراً من التحرر، حداً مقبولاً من التحرر الفردي والجماعي من الخوف؛ الخوف من الكلام، والخوف من الفعل، والخوف من المبادأة والمشاركة في الشأن العام. لم يدر في خلد هذا المعلم المثابر، والمربي المُبادر عمق هذا الخذلان، القعر السحيق الذي أوصلنا إياه السكوت، وهو الذي أفنى زهرة شبابه في تعليم الناشئة كيف يحبون هذه الأرض، وكيف ينشغلون بعمارها، وكيف يوثقون قصص عشقهم لها، وكيف يحافظون على أحلام يقظتهم بها وعليها مشبوبة بالإيمان وبالخير. هذا الإنسان الذي لم يكلّ يوماً عن تذكير وتحفيز أهله ومحبيه وأصدقائه وتلاميذه عن مواصلة الأمل، عن رعاية هذا الأمل، العناية بجذوره وبداياته، ثم، لم يكتفِ بذلك، بل كان ولا يزال يواصل تذكيرهم؛ كيف يعملون وكيف يخلصون وكيف لا يلتفتون لكل ما هو محبط ومؤذٍ وفاسد، وكيف يناصرون المظلوم ويقفون في صف المهمش والمتروك، لأن إيمانه بعمران البلاد يتطلب منه، ومن أمثاله من المراهنين على الكلمة الحُرّة؛ يتطلب ابتداءً فهم مسببات الدمار، ثم التزود بالجسارة الكافية لكشفه وفضحه والرد عليه، لا بالكلام وحده، بل بالوفاء وبالنزاهة وبالعمل وبالاجتهاد وبالتضحية.
وهو القائل: “أشياء كثيرة يستطيع العماني تغييرها في حياته، شيء واحد يعجز عن تبديله، المكان الذي ولد فيه..”.
إن الإنسان الذي يسير، منذ زمن طويل، في هذا الطريق، لا تنقصه الشجاعة متعددة الأبعاد، شجاعة الرأي، والموقف، والفهم. غير أنه، أكثر عُرضة من غيره لانكسارات روحية مضاعفة، ولانتكاسات شعورية موغلة، تسلمه لوحش يتعملق في داخله، يتغذى على اللاجدوى التي تصفعه بها الحياة، ويغدر به الزمن، لأن عمق الهوة بين زمنه الخاص والزمن العام أكبر من أن يُدرك وأقل من أن يُلحظ. الفجوة بين زمن وعيه بأحلامه وتطلعاته والزمن العام بحقيقة أدواته وكفاءة أسلحته. ولأنه لا يُصدّق الثاني ويلوذ بالأول؛ فعليه أن يدفع أثماناً أكثر كلفة من غيره، أثماناً باهظة من عمره وحريته وجمال ظنه في نفسه، وفي مجتمع الناس من حوله.
كما أن أي إنسان اختار أن ينحاز لخيار الحق والنضال من أجل الحقيقة، في مجتمع كمجتمعنا، ستختبره فكرة أساسية، عليه أن يفهمها جيداً ويتأمل فيها ملياً، وهي أن السجن ليس واحداً في هذه البلاد:
فهناك السجن كفكرة والتي تهزم الإنسان بالذعر وبالرعب وهو في مكانه. وهو سجن جرى الاشتغال على تشييده بمهل وطول بال. استهلك ثروات طائلة، وراكم خبرات عميقة، واستخدم ولاءات ممتدة، فأثمر سجّانين تنوء باحتمالهم الجبال. وهناك سجن الخذلان والتقاصر عن نُصرة المظلوم، استسلاماً للخوف المتطاير في الهواء، تقرأ هذا الاستسلام، هذا الانطفاء، في عيونهم قبل ألسنتهم حتى وصل بهم الحال إلى مستوىً غير مسبوق من إيثار السلامة والقلق المبالغ فيه على النفس الذي يجعلهم يتلكؤون حتى عن مجرد إبداء تضامنهم في قضية عامة. نعم، تضامن لا يسمن ولا يغني من حبس أو أذى، غدا مطلباً عزيز المنال هذه الأيام.
وهناك سجن النصوص القانونية، والتي أحكمت القبض على الإنسان وعلى كلامه ومواقفه؛ فوسعت وأطلقت لسلطات التحقيق والاتهام الأمر بالحبس “احتياطاً” فمن “سبعة أيام يجوز تجديدها لمدد أخرى أقصاها ثلاثون يوما” إلى الشرعنة لأعضاء سلطة الاتهام بمد هذا الحبس بعد عرض الأمر على محكمة الجنح لمدة تصل إلى ستة أشهر” هذا كله قبل وصول أي متهم إلى محاكمات عادلة ونزيهة تكفل له حق الدفاع عن نفسه وعن كلامه الذي تكلّم به!. هكذا، بتوقيع قلم بارد، تصبح حرية إنسان، أحلامه، مصيره ومصائر أهله وعائلته رهن تقديرات وتخمينات وأمزجة.
إن هذا التوسع في وسيلة مفهومة “كالحبس الاحتياطي” مغبة الهروب ومغبة ضياع أدلة بعينها، يحولها، وبطريقة غير مفهومة، إلى عقوبة بذاتها، غاية مكتملة يستخدمها من بيده القوة. وبفعله هذا لا يشكل ضرراً على حرية الفرد فقط، بل ويؤكدها كوسيلة إكراه على المتهم، الذي تفترض جميع الشرائع أنه بريء حتى إثبات العكس.
وهناك سجن المصطلحات: “مكانة الدولة”،”النظام العام”، “السكينة العامة”،”قيم المجتمع” هذه السجون الواسعة والفاغرة أفواهها للمزيد، تتجاوز الشخصي والعفوي واللحظي والمحدود، وبفعل تكرار ضحاياها، سنصل، بأقصر السبل، إلى رهاب ذهني عام يصاب به المجتمع، يعطّله عن استخدام قدراته على الاعتراض، ويدمر بصمت ملكات النقد والتقويم والتفكير بصوت مسموع، لديه، وهي ممارسات محورية يرتكز عليها أي تقدم، إذا كنا بصدق نروم التقدم وننافس لأجله.
وهناك سجن المؤسسات التي تخلت عن دورها في تشريع ومراقبة القوانين وتقويمها وفق مسطرة حقوق الإنسان القائمة على العدل والحرية والمساواة، فإذا اكتفت هذه المؤسسات بدور المشاهد قليل الحيلة، الغارق في تصريف أعماله الإدارية اليومية فهي ليست أكثر من سجّان آخر يضع على مستقبلنا المزيد والثقيل من القيود والسلاسل.
وهناك سجن الفضاء العام المشتت والمرعوب من الالتقاء والتباحث والتفاكر في شؤونه ومصالحه وطرائق نموه. فإن لم يغادر مخاوفه المباشرة ويجترح مبادرات تساعد الوعي العام على بناء موقف من كل ما يحيط به فلن يكون إلا إضافة في إعادة إنتاج العجز والتواكل والأغلال.
وهناك سجن النسيان وسجن الذاكرة القصيرة، إذ أننا لا نكاد نذكر كم عدد ضحايا الاستدعاءات والاستجوابات والتحقيقات ومحاكمات قضايا الحريات العامة. إما لكثرتها أو لتواليها أو لتجنب الانزعاج بها، حتى لا نكلف أنفسنا جهد السؤال عن مآلات كل من ناله هذا الاختبار، ولا عن مصائرهم ولا خيباتهم ،متناسين أنهم لم يكونوا طلاب مصالح شخصية بقدر ما كانوا في مقدمة الصفوف المطالبة بخير الجميع وبالكرامة الإنسانية.
لذا، ونحن في عصر سجن واحد لا يكفي، نجد أن حمود الشكيلي قد سبقنا بالتساؤل منذ سنين في روايته “صرخة واحدة لا تكفي” على لسان أحمد سائق سيارة توزيع الغاز، بطل روايته:
“هل يرضى وطني العزيز أن يزج بأناس في قضية أخذت الممثلين إلى طريق مسدود”!
إننا “نرى كل الكلام” في أفواه بعضنا البعض، لكننا لا نتكلم، نرى الكلام لكننا لا نسمع شيئاً، هناك هسيس خطير يغلف الأجواء، هسيس قد يتحوّل إلى نار موقدة سيصعب علينا إطفاؤها. لأننا لم نفتح أفواهنا، حتى بالنفخ. ظناً منا بأن السلامة لها طريق واحد وهو السكوت، أو الانشغال بكل شيء إلا الحقوق والحريات. إن الموت ليس موت الأجساد وتحللها، الموت هو خوف الضمائر من التفكير ومن التعبير ومن الكلام.
سعيد سلطان الهاشمي
الاستاذ سعيد الهاشمي
كفيت ووفيت ووضعت يدك على الجرح
انت انسان مبدع وفقك الله
اشكرك والشكر اقل من حقك تكلمت بلسان كثير من الناس بابدع .. تكلمت بشجاعة عندما يعجز الكثير عنها
الاستاذ سعيد الهاشمي كاتب مميز،دائما طرحه تعبيرا عن دواخلنا،ليلامس الجرح ونظل ننزف لاننا لا نستطيع مداواة جروحنا.
لقد أبدعت وأتمنى أن تكون رسالتك وصلت لأصحاب السلطة بفتح السين وهم العامة قبل أصحاب السلطة بضم السين…..!!!
مع خالص تحياتي