حكايَة غزَالة بنت ناصر

لـ : عائشة السيفي
نوفمبر 2014

***

غزالَة بنت ناصُر الكنديّة هي امرأة عُمانيّة خالصة. نشأت وتربّت في حارات نزوَى، في حارة العقر تحديداً على مقربةٍ من قلعة نزوى الشهباء في زمنٍ كانت الكهرباء فيهِ حلماً، ووجبة العشاءِ حكراً على الأغنياء، وتعلِيم الكتاتيب حجراً على الذكور.

وحين بزغت شمسُ النهضة وفتحتِ المدارسُ أبوابها.. وخرجَ نداء السلطان إلى كلّ بيتٍ عُمانيّ بأن يستعدّ لرحلَة التعليم، بكت غزَالة كثيراً إذ كان عليهَا أن تحرَم من التعليم لأنّه عَيب.. كان الشيوبة يسخرُون في مجالسهم: عوين فتحُوا مدارس يعلموا الصغيرين فيهَا يلونُوا الديك والدجاجة!

عاشت غزالة طفولة ً صعبة.. عاشت لحظًات الخوف أثناءَ الثورة الافريقيّة في زنجبار في الستينات ضدّ الحكم العمانيّ حين ذبح آلاف العُمانيين في حربِ إبادةٍ جماعيّة وعاشَت لحظات الوحدَة في سفينةٍ تتوسّط أمواج البحر العاتية مع مئات الأسر العمانيّة الفارّة إلى عُمان هرباً من جحيم الحرب. وحينَ وصلت عُمان لم تكن الحياة ورديّة إذ كانَت الحياة أكثر شظفاً من تلك التي عاشتهَا في ساحلِ إفريقيا لتستمرَ حياة الشظف وتواصلَ غزالة رحلةَ جهادها في الحياة.

وكبقيّة من هنّ في سنّها فقد تزوّجت غزالة وهيَ طفلة لمّا تبلغ الحلم.. لتواصلَ عاماً بعد عامٍ مهمّة الحملِ والإنجابِ .. هذهِ المهمّة العتيدَة التي لم توقف غزَالة عن حلمهَا بأن تمسكَ قلماً يوماً وتقرأ كتاباً بصوتٍ عالٍ.. هكذا كانَ أقصى حلمها وكانَ أن فتحت مدارسُ محوِ الأميّة أبوابها فكانت غزَالة أولَى الملتحقات من حارَتها.. غزَالة الزوجَة والأمّ لستةِ أطفال تحمِلُ أطفالها وتذهب بهم معهَا إلى مدرسَة الحارة.. تحتَ “ليسُوها” تخبّئ طفلها الرضيع “وفي ثبانها” يستلقي طفلهَا النائم، ويشخبط الثالث على دفترهَا. وغزَالة؟! كانت غزالة راسخَة كصنَم تستمعُ للمعلمةِ المصريّة وهي تشرح .. تلتقطُ الألف والباء والتاء والثاء .. وتحلمُ يوماً بأن تمسكَ جريدَة وتقرأ كما يفعلُ المتعلمُون ..

مرّ الصفّ الأول على غزَالة وخرجت منهُ الأولى على فصلها.. أمّ الستةِ أطفال تحصدُ العلاماتِ النهائيّة في الرياضيّات واللغة العربية والإسلاميّة .. ثمّ تواصل للصفّ الثاني فتغادرهُ الأولى على الصفّ ثمّ تبدأ بالثالث وقد انتفخَ بطنهَا وثقلت حركتها. كان طفلها السّابع في الطريق لتختمَ الصفّ الثالث بعلامةٍ نهائيّة وطفلةٍ سابعة .. ها قد أصبحت غزَالة أماً لسبعة أطفال .. وهنا لم تعد النزوانيّة العتيدة قادرة على أن تكمِل فقد اشتدّ الحِملُ المنزليّ عليها. وهكذا كان على غزالة أن تتخلّى عن حلمها .. نعم أصبحَ بإمكان غزالة أن تمسكَ جريدةً وتقرأ وأصبحَ بإمكانها أن تكتبَ مع أطفالها في صفوفهم الأولى واجباتهم المدرسيّة ورغم ذلك ظلّت غزالة تحلُم دائماً بأن تكونَ أكثر من أمٍ عُمانية تقرأ وتكتب .. كانَ حلمها أكبر مما يتسعُ لهُ الخيال ..

بعدَ سنواتٍ قليلةٍ أصبحت غزالة أماً لتسعَة أطفال .. يفصلُ بينهُم عامٌ أو عامان .. كانت غزالة شديدَة الصرامَة على أطفالها حينَ يتعلقُ الأمرُ بدرَاستهم .. غزًالة لم تذهب يوماً لتسأل عن أيٍ من أطفالها في المدرسَة. كانت واثقةً جداً من ورشة العمل التي تديرُها من منزلها. تراقبُ مذاكرتهم ، واجباتهم ، امتحاناتهم .. بالنسبَة لها كان هؤلاء التسعَة هم مشرُوع حياتها.. هذهِ المرأة العمانيّة كانت مصممةً على أن ترى نفسها في كلّ واحدٍ منهم .. كانَ ذلك مشرُوع حياتهَا الحلم .. وقد عملت جاهدَةً على أن تجعلَ الحلم حقيقةً وواقعاً..

حينَ تخرّجت كبرَى بناتها من الثانويّة العامة بمجمُوعٍ عالٍ ، كانت جامعة السلطانِ قابُوس قد فتحت أبوَابها آنذاك وقبلها كانَ العُمانيُون يبعثُونَ بناتهُم إلى كليّات دبلُوم المعلُمات لكنّ عين غزالة كانت على الجامعة التي تليقُ بحلمها. وقد وجدت غزالة معارضةً شديدةً من المجتمع كون الجامعة آنذاك “شبهة” لجوّ الاختلاط الدراسيّ فيها عكسَ كليّات دبلُوم المعلمات.

بكت غزالَة خوفاً من أن يضيعَ الحُلم حين وجدت معارضَة في البداية من زوجهَا ولكنّهَا كانت شديدَة التصميم على الأمر حتّى وإن كلّفها ذلك طلب فتوَى من سماحَة المفتي آنذاك في جوَازِ التحاقِ البناتِ بالجامعَة المختلطَة. وكانَ أن انتصرَت غزَالة والتحقَت أولى بناتها بالجامعة: جامعة قابُوس! كما اعتادَت غزَالة أن تسمّيها.

بعدَ عامٍ ، تخرّج ابنُ غزالة الثاني بمعدلٍ عالٍ فكانَ طريقهُ مفروشاً إلى جامعة السلطان قابُوس ، تخصّص جيولوجيا الأرض وبعد عامٍ آخر أنهت ابنةُ غزالة الثالثة الثانويّة لتلتحقَ بالجامعة أيضاً معلّمة ً للجغرافيا فالرّابعة معلمةً للتاريخ فابنُها الخَامس بكليّة التجارة والاقتصاد فالسادسَة معلمةً للغة الانجليزيّة فالسابعَة بكليّة الهندسَة فالثّامن بكليّة الهندسَة فالتّاسع بكليّة التجارة والاقتِصاد.

22 عاماً!!!! وغزالَة تصدّر الابن تلوَ الآخر إلى جامعَة السلطان قابُوس.. يتخرّج أبناؤُها بأعلَى النّسب فلا تقبل التحاقهم ببعثَات خارجيّة أو عسكريّة. 22 سنَة والنزوانيّة بمؤهل الصفّ الثالث الابتدائيّ تعمَل بدقّة المهندس ، والتزَام الطّبيب وحنكَة الأستاذ على مشرُوع حياتها حتّى ختمتهُ بالتحاقِ أبنائها التسعة بجامعة السلطان قابُوس!

كانَ دخُول أبنائها للجامعة قد أصبحَ أمراً اعتيادياً في نزوى إذ كانتِ النساءُ يعلمن أنّ ابن غزالة اللاحق سيلتحقُ بالسّابقِ في الجامعة. بعضُهم كانَ يعتقدُ أنّ لغزالة “واسطة” كبيرَة في الديوان تؤهلُ أبناءها للجامعة وبعضهُم كانَ أكثر صراحةً بطلبهِ “للحرُوز” و”العمُولات” التي تؤهّل أبناءها للجامعة .. وأمّا غزالة فكانت تردّ بابتسامةٍ كبيرة إذ أنّها تعلم أنّها تمتلكُ ما يفُوق قدرَة الديوَان والحروز.. كانت تعرفُ أنّ العزيمَة التي تستمدّها من إيمانها بالله هيَ أكبر من قدرَة أيّ قادر!

كانت غزَالة تجدُ بعضَ المعارضة من أولادها الذينَ رغبُوا في الالتحاقِ ببعثاتٍ خارجيّة تؤهلهُم لها نسبهُم المرتفعة ولكنّها كانت ترفضُ رفضاً قاطعاً. كانت تردّ بحزم: عجب حد عنده جامعة قابوس ويروح يتغرب ويدرس بجامعة ثانية؟ لن يدرُس أيٌ منكُم البكالوريُوس إلا بجامعة السلطان قابُوس.. ومن أرادَ منكُم أن يطُوف الأرضَ بعدهَا دارساً فيمَا شاءَ من جامعَات فليكُن له ذلك ولكنّكم ستبدؤُونَ جميعاً من هناك .. من جامعَة قابُوس. وقد كانَ لها ذلك إذ انطلقَ أبناؤُها بعد دراسةِ البكالوريوس ليحصدُوا مزيداً من الشهَادات والخبرَات في جامعَات العالم تتبعهُم بركات غزَالة ودعوَاتها بعد أن حققُوا لها حلمها منطلقينَ من صرحِ الجامعة.

غزَالة بنت ناصر الكنديّ ، الأمّ لتسعَة خريجين هُم اليَوم سوَاعد منتجَة وطاقَات عاليَة الهمّة تسهُم في بناء هذا الوَطن الجَميل .. الأّمّ التي سخرت حياتها من أجل وطنهَا .. لم تكرّم يوماً .. ولم يأخذها الغرُور والصّلف.. هيَ لا تزال تلكَ المرأة النزوانيّة البسيطة. يصادفهَا المارّة حاملةً .. “قفير الرقاط” من المزرعة إلى بيتهَا .. لم تتصدّر مجلاّت المرأة وجرائدهَا على أنّها “المرأة المجيدة” .. لم تتحدّث عنها صحافة أو تكرّمها الجامعة التي آمنت بهَا غزالة طوَال حياتها.

غزَالة الانسانَة العُمانيّة البسيطة لم تنل شيئاً من الشهرة والتكريم ولم تعنهَا الأضواء يوماً.. هيَ ليست شابةً وأنيقَة لتتصدّر أغلفة المجلاّت .. وهيَ لا تدعى إلى حفلات “تكريم المرأة” حيثُ تجتمعُ النساءُ بملابسهنّ الفارهة ووجُوههنّ المرسُومة بعناية ..

غزَالة “الجنديّة المجهولة” لا تزال تعيشُ في نزوَى بحبٍ بينَ أبنائهَا فخورةً بهم. وطوال الـ22 سنَة التي قضتهَا غزالة في مشرُوع حياتها لم تطأ قدمُها الجامعة .. كانت تقولُ: أنا أعملُ من هذا البيت.. هذا البيتُ مصنعي .. وهنا بدأتُ مشروعي وإلى الجامعَة ينتهي..

غزَالة بنت ناصر الكنديّة .. هيَ أمّي!

نعم.. هيَ أمّي وأمّ شمساء وماجد وجميلة وأسمَاء وسليمان وخولَة وعائشَة وابراهيم والمعتصم .. هيَ أمّ التسعة الذينَ التحقُوا بالجامعة وتخرّجوا دونَ أن تحضرَ غزالَة حفلَ تخرّج أيٍ منهم في الجامعَة .. لم تكن تعنيهَا الاحتفالات .. كانت معنيةً بالمضمُون أكثر من المظهَر ..
قبل 4 أشهُر حينَ أنهَى أخي الأصغر المعتصم دراستَه بالجامعة ليلتحقَ مباشرةً بشركةٍ نفطيةٍ مرموقة سألتُها.. ما شعورك اليَوم وآخرُ أبنائك يتخرجُ من الجامعة ويلتحقُ بسلك العمَل. ودونَ أن تشيحَ عينيها عن “صينيّة رقاط القيظ” ملتقطةً حبّات الرطب ردّت بنصفِ ابتسامة: الحمدلله هذهِ من نعم الله والسلطان.. الآن فقط أستطيع أن أستريح ..

ياااااه يا أمّي! الآنَ تستريحِين فقط؟
ما أجمَلك وما أصبَركَ وما أعظمَك!

حينَ أعلنتُ قبلَ عامٍ عن رغبتِي في الانتقالِ للعمَل بهُولندا كانت أوّل من ساندَ قراري وباركَ لي .. لم تطرَحِ الكثِير من الأسئلَة قالتْ لي: توكّلي يا ابنتِي ولا تحاتي! كانتْ تفِي بوعدها لنَا: ادرسُوا البكالوريُوس في “جامعة قابوس” ثمّ طوفُوا الأرضَ بحثاُ عن العلم كيفمَا شئتم. لقد فعلَت ذلكَ معي ومع اخوانيْ الذينَ سبقُوني وهم يجُوبون العالم بحثاً عن المعرفَة الانسانيّة العظيمَة التيْ تعلّموها من مدرسَة غزالَة بنت ناصر..

كنتُ أسألُ في كثيرِ من الأحايينِ عن حمَاسي المبالغ فيه وحدّتي في النقد تجاهَ الجامعة في تدهورها في السنوَات الأخيرة أكاديمياً وسقوطهَا في سلّم الترتيب الأكاديميّ عالمياً.. كنتُ أسأل عن حماسي المبالغ وكنتُ أجيب أنّ علاقتِي بهذه الجامعة هي علاقَة شخصيّة تبرّر حدّتي في نقدها .. أنا أرَى هذه الجامعَة فأرَى فيهَا أمّي التي راهنَت عليها. أرى فيهَا مشرُوع حياتها الذي لا أريدُ يوماً أن تندَم عليه .. أريدُها أن ترفع رأسها عالياً وهي تتحدّث عن منجزها: أطفالها الجامعيين التسعة.

اليَوم يتخرّج المعتصِم السيفيّ آخر أبناء غزالة بنت ناصِر.. أمضيتُ وقتاً طويلاً في إقناعها بحضُور حفلِ التخرّج .. قالت لي: لم أحضُر حفل تخرّج أيٍ من أبنائي.. فردّ عليها المعتصم: احضُري يا أمّي، هذه فرصَتك الأخيرة لتحضري آخر حفل تخرّج لأحد أبنائكِ في الجامعة.

اليَوم … اليَوم تطأُ غزالة بنت ناصر أرضَ الجامعة لأوّل مرّة. المرأة التي صدّرت أبناءها على مدار 20 سنَة إلى الجامعة تطأ الجامعَة اليَوم لأوّل مرّة .. ستدخلُ الجامعة دونَ أن يلمحهَا أحد وبهدوءٍ ستختفي بينَ الجماهير الحاضرَة دونَ صخبٍ أو ضجيج ..

وستبتسمُ وتصفّق حينَ ترَى ابنها المعتصم .. لن تصفّق له فحسب بل لأبنائها التسعَة الذينَ شاركُوها الحلم .. وصيّروهُ واقعاً ..

وقد لا تكُون غزالَة وحدَها الأمّ الاستثنائيّة الوحيدَة .. فربّما في مكانٍ ما من عُمان .. في قريةٍ أو سهلٍ أو جبل .. هنالكَ امرأةٌ مجهُولة .. تعملُ بجدٍ على مشرُوعها الحلم .. تصدّر ابناً تلو الآخر إلى الجامعة .. امرأة أميَّة ليست جميلةً ولا شابّة .. لا تلاحقهَا عدسات الكاميرا ولا تحصُد صُورهَا الجميلَة آلاف المتابعينَ والمعجبين على الانترنت .. امرأة مجهُولة تعملُ بصمتٍ في مكانٍ ما .. تماماً كما فعلَت غزالة!

ألف مبارك لك يا أمّي .. وكلّ عامٍ وأنتِ بخير .. يا غزَالة بنت ناصر،.. آنَ لكِ الآنَ أن تسترِيحي وتقرِي عيناً أيتهَا العُمانيّة الأصيلَة.

9 تعليقات

  1. هي جامعة
    هي أم
    هي مثال للمرأة العمانية الناجحة
    والقدوة في قطع حبال الخوف والتقاعس عن طلب العلم

    أمي غزالة فليحفظك لله ويبارك في أولادك..

  2. لله درها من قائد
    فالقياده ليست حكرا على الذكور
    لها كل الاحترام والتقدير
    بارك الله فبها وفي ابنائها

  3. شكرا ماما غزالة ونعم الام وشكرا لابنتها عائشة نعم لقد ذرفت دموعي لتذكرني بأمي رحمها الله التي كانت تسهر على بناتها وأولادها رغم قسوة المعيشة منذ عقد السبعينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي وهي تسهر من أجلنا لكي ننجح ، شكرا عائشة على هذه الأطروحة

Comments are closed.