استغلال نقطتي القوة والضعف المتمثلتين في قوة المحرك وخفة الهيكل، مع العجلات الدائرة، والوصول بالسيارة لمنطقة حركة يسميها الفيزيائيون الدوران بقوة العطالة الذاتية؛ استغلال قوة المحرك في توليد قنابل صوتية، تجارب الانطلاق السريعة، سباق السيارات التقليدي مع التنويع على المضمار، قيادة السيارات بأقصى سرعة في الطرقات العامة، تجاوز السيارات الأخرى التي تعمل مقام العقبات المتحركة. مثلما في ألعاب الكومبيوتر..
ألعاب سيارات، ودراجات نارية، لكن من اللاعب، ما هو الدافع، وما هو الرهان؟
اللاعب الإنسان، والدافع المتعة المتحققة بالتحرر من ضغط الطاقة الفائضة ولفت الانتباه والتميز، والرهان يقوم على الحياة نفسها.
هل يمكن أن يقوم انسان عاقل بتعريض حياته وحياة الآخرين للخطر؟
برمجتنا المسبقة تقول: طبعاً لا .. لكن لماذا لا نتخلص من برمجتنا المسبقة وننظر للسؤال بحيادية معرفية، إن الإنسان الذي عشناه جميعاً يعلمنا أن الإنسان أكبر من حصره في إطار (عاقل) ولذلك يقوم بأشياء كثيرة لا عقلانية أيضاً، منها الاستجابة للبرمجة المسبقة والتوجيه الجمعي، ومنها هنا اللعب بالسيارات، تجربة المخاطر، الوقوع تحت ضغط الخوف ..الخ
الطاقة الحيوية المتفجرة التي يجدها الشاب تضطرم في نفسه وتبحث لها عن منفذ قريب تظل تقود خطوات الشباب نحو التجربة المستمرة، حتى لما يدعوه الأخرون التهور، أليست ألعاب السيارات هي علامة تعبير عن تلك الطاقة التي يشعر بها الإنسان الشاب في نفسه والتي تبحث لها عن مسرح تعبيري، أليست هي النار التي جاء من اشتبابها اسم الشباب؟
لم لا نسأل لماذا لا تجد تلك الطاقة المتفجرة في الشباب مسارح أفضل تمارس فيها تعبيرها عن طاقتها المتفجرة؟ لماذا لا نملك نظاماً قائماً يستطيع أن يستوعب تلك الطاقة التي تبدد نفسها في الفراغ هكذا أمام أعيننا وتلح على إزعاجنا بصورة شبه يومية كي تلفت انتباهنا؟ كي ترغمنا على التفكير فيها، كي تعلن عن وجودها وتطلب منا يد العون.
لم لا نسأل أنفسنا عما يقدمه لنا هذا المثال، كيف لإنسان أو فئة عمرية أن تهدر طاقتها بهذا الشكل فقط كي تباهي، كي تقنع نفسها بالقوة، وكي تتمثلها، حتى لو كانت الأضعف، كي تغير المناخ الراكد المحيط بها، وتحدث بذلك أثراً، كيف أنها تزعج وتلفت الانتباه لمعضلتها بالقوة، هل يوجد حقاً من يفعل ذلك؟ هل يشبه ذلك أن يبدد مجتمع ما ثروته الحيوية كي يشتري سيارات فخمة، ويبني فللاً على شكل قصور مصغرة، كي يسافر ويتبع اللذة المؤقتة والمتعة، ويكون هدفه الوحيد هو تلك المتعة وتلك اللذة، والإثارة، دون أن يكترث ذلك المجتمع للمخاطر الناشئة من تصرفاته تلك، ولا للإزعاج المتولد، ولا للتهديد الذي يحدق بحياته وكيانه ووجوده ككل؟!
هل هي كذلك؟
هل الحالة الشبابية المتكاثرة في كل مكان وكل منطقة وحارة هي تعبير عن حالنا العام، وأن الضياع والتهور هو حالتنا الجماعية؟
لا نستعجل، لكن لنتساءل أكثر لماذا أو ما الذي يمنع بشكل مبدئي أن تحتضن أولئك الشباب النوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية والمسارح والصالونات الثقافية والفنية والمختبرات العلمية للهواة والفرق الشعبية والمزارع الصغيرة والكبيرة والأنشطة الاقتصادية البسيطة كالصيد والرعي، والورش الصناعية لاستغلال تلك الطاقة المهدرة ولتحفيز الشاب ليتحول من عبء إلى مصدر إنتاج؟
ما الذي يبقي هذه الحالة الشبابية بهذه الحالة من الوضوح، وهي تنذر بما يليها في هذا الطريق وجميعنا يعلم ما الذي يليها: المخدرات، الطريق الإجرامي، تكون العصابات.. الخ
إذن هل لدينا مشكلة جذرية في النظام، يجب أن نبحث عنها؟ أليس وجود شباب الأمة بهذه الصورة في الطرقات والشوراع هو مجرد مظهر واحد من مظاهر تلك الأزمة والمشكلة العامة؟ هل نقول أن لدينا نظاماً قائماً على استغلال ثروات البلاد ظاهرياً لصالح البلاد، لكن يبدو جلياً أنه يصبنا صباً في إطار مصالح الاقتصاد العالمي ويخدم مصلحة الطبقة المنتفعة دون أن يبني في داخله نظاماً متكاملاً جذرياً يهتم بتنمية اقتصادية شاملة لثروات البلاد ويجعلها تصب في خدمة الاقتصاد الوطني الذي يخدم داخل البلاد، لا الخارج، بدلاً من نموذج الاقتصاد الريعي الشائع الذي تبنته دولنا إثر جلاء الاستعمار القديم، ما جعل دولنا تقع تحت التأثير المباشر للاستعمار الاقتصادي الحديث.
وبالعكس لو كان لدينا نظام يعمل وفق برنامج زمني متكامل للنهوض الحقيقي بالبلاد ليصبح لها نظام اقتصادي وثقافي واجتماعي منتج، يتحول فيه الأفراد إلى منتجين وفاعلين ومبتكرين ومبدعي طرائق حديثة، ينهض بالتصنيع الزراعي والسمكي والرعوي لصالح الأمة ولصالح تقدم ورفاه الشعب، وبالتالي يبني مثالاً لأجياله التالية عما ينبغي عمله، فيجد الشاب بنفسه ألف طريقة ومسرح يقوم فيهما بتسخير طاقاته لتكون مثمرة بدل أن تكون مهدرة. ولتخدم التنافس العام.
بالعكس تماماً، ها نحن نرى الشباب يضعون طاقاتهم، بلا وعي دقيق، فيما يخدم التنافس العام الاجتماعي في هذه اللحظة، والمتمثل في حرية الامتلاك وحرية التصرف بدون اكتراث، وحرية التلذذ والتمتع بما هو متاح دون مسئولية، مع التهرب من الوقوع في قبضة القانون وممثلها الشرطة، ألا يتنافس أفراد الطبقة (التي يفترض أنها منتجة) فيما بينهم على الملكيات، والأرصدة عبر العمل وسيطاً (دلال، سمسار)، أو مالكاً إسمياً، أو مرشداً سياحياً، أو وكيلاً شكلياً لدى القوى الاقتصادية العالمية في إهدار أعمى لكل الثروات الوطنية، من أجل لذة التملك الذاتي، دون شعور بالمسئولية، حتى لو بدا واضحاً وجلياً أن ذلك كله لا يصب في خدمة الاقتصاد المحلي والوطني للأمة والشعب، ويخلق منا مجرد تجمع لكل المستنفعين المؤقتين، الطارئين على المشهد التاريخي، وجودهم مرتبط بوجود الوفرة ورحيلهم بنضوبها.
هكذا ولا يفصلنا إلا عشر سنوات عن اكمال مائة عام منذ أول الحملات الاستكشافية للنفط في عمان، نجد الثقافة الرائجة هي الثقافة الاستهلاكية، التي تهدر الموارد بلا مسئولية، ولا تهتم ببناء الاقتصاد الراسخ، فمعظم الصناعة الاقتصادية قائمة على صناعة إعادة التعبئة، كيف لم يصل التصنيع الحقيقي للزراعة التي ما زالت كما هي منذ مئات السنين ولا لقطاع الصيد ولا لقطاع الرعي، وإذا حدث التصنيع فهو للتصدير وليس لتلبية حاجات البلاد كالمحاجر المنتشرة اليوم فوق جبال البلاد تقوم بتصدير وبيع المواد الخام للخارج دون عمليات التصنيع المحلية، ثم نتنافس نحن للاهتمام بالحرف التقليدية، في العصر الذي تتنافس فيه الدول على التكنولوجيا!
إذن ألا يقول الشباب ويعبرون عبر اللعب بالمحركات وبالسيارات ما نمثله نحن كشعب وكأمة من حالة لاعبة هي الأخرى، لكن ليس بالسيارات بل بالثروات الوطنية، ألا ينبهنا الشباب بأفعالهم من نومنا الطويل الفعلي في ليل الجهل والتخلف بأصوات سياراتهم. ألا يضربون لنا مثلاً رمزياً بإيقافهم للطريق العام لمن يقطعون الطريق العام للأمة وللشعب باستهتارهم ولعبهم بالثروات الوطنية وتبخيرها في التلوث العالمي، ألا يعلموننا بضوضائهم الشديدة درساً عن الذين يتواطؤون تحت صراخ الوطنية الذي يصم الآذان، بصمت رقيع على استلاب المال العام، وقبول الرشوات من الشركات الأجنبية كي يبيعوا حق الوطن ويتنازلوا عن حقٍ عام لكل فرد من أفراد الشعب؟!
ظل شاب يصر إصراراً عجيباً لسنوات، نهاية كل ليلة قرب الساعة الثانية والنصف والثالثة على اللعب بسيارته في حيّ البلدة التجاري الصغير، قريباً من منزل والدي، ما كان يزعج والديّ ويجعلهما لا يهنئان نوماً، وحين سألت عمن يكون هذا الشاب، علمت أنه مهووس لم تنفع معه كل التحذيرات والتهديدات والاحتجازات في مركز الشرطة، حتى أن أهله تبرأوا منه ومما يفعله؛ إلى ذلك الشاب، وكل من يشبهونه، هذا المقال..
إبراهيم سعيد