ماهي السبيل إلى الدولة المدنية؟ سؤال ملغم وإجابته تعج بالشوك والورد في آن واحد، إلا أن تجارب الإنسانية والمعرفة بجميع مصادرها توجهنا إلى تقويم الذات: إبدأ بنفسك فقومها، وبعدها يمكن أن توجه العالم. إن نحن شئنا لبلدنا ومجتمعاتنا الرقي ودوام الاستقرار فلابد من تحديد الوجهة بعد تحديد الموقع والوضع الحاليين، بمعنى آخر لابد من التشخيص.
كثيرا ما قيل عن تشخيص ما تمر به دولتنا العمانية، وهو أمر مرتبط بعمرها الزمني وتعدد عناصرها الاجتماعية والثقافية والمادية ، ولا أزعم أني سأضيف إلى الأمر شيئا جديدا، ولكني أود أن أنطلق من ظاهرة اجتماعية اتفق عليها عدد من علماء الإنسان والتاريخ الاجتماعي ألا وهي أنه ما من دولة إلا وتمر بمراحل طفولة ففتوة فشيخوخة فكهولة. وبالمثل فما من مجتمع إلا ويبدأ صغيرا في نظرته ، محدودا في موارده ، منغلقا على نفسه ، مكتفيا بذاته ، ومتكاملا في أدوار أعضائه إلا أنه سرعان ما تتغير نظرته ، وتتعاظم جعبته، وتتسع رقعته ، وتتزايد موارده وثرواته ، وتتغير طبيعة العلاقة التي تربط بين أعضائه من التكامل إلى التنافس (أو التناحر في بعض الأحيان)، وتنحى الأدوار الاجتماعية والعلاقات الهيكلية – التي بدأت طبيعية يوما ما – إلى التمركز بشكل فكري وأيدولوجي واتخاذ معسكرات وجبهات ومواقف تصبح غاية في حد ذاتها بعد أن كانت وسيلة، ويتحول بناء المجتمع من الجماعة إلى الفرد، وهذا في تقدير علماء الإنسان تحول طبيعي أو في بعض أشكاله حتمي، وهذه الحتمية لا بد لها من قيادة أو ضبط ، وإن حمل هذا القول تناقضا باديا، إلا أنه عادة ما يقصد بالتحكم في تبعات هذا االتحول من خلال جملة من الأمور من أبرزها أمران أساسيان أحدهما سيادة القانون، والآخر، وهو الأهم ، بناء الإنسان الذي يكوّن هذا المجتمع ، وجعله قادرا على أن يكون أنموذجا للمجتمع والدولة التي يود أن يراها ماثلة أمامه.
من غير المنطقي أن يطالب الإنسان بدولة صالحة رشيدة وهو في ذاته يعوزه الصلاح والرشاد ، ومن غير المعقول أن يطالب الإنسان بدولة تعتمد تكافؤ الفرص كمبدأ ونهج وهو أول من يحاول انتهاز الفرص وتوظيفها شخصيا؛ مبررا ذلك أن العالم غابة شرسة السكان، وبالمثل فمن يرغب في أن يعم مجتمعه العدل عليه أن يكون عادلا ولو في نطاقه الشخصي أو محيطه الضيق ، ومن يرغب أن يعم مجتمعه الاحترام والتسامح عليه أن يكون محترما ومتسامحا مع ذاته والمحيطين به سواء أعاد ذلك عليه بفائدة مادية أم لا، ومن أراد القانون أن يسري على الجميع عليه أن يحترم القانون أينما كان حتى مع غياب رجال القانون لأنه سيصبح بذلك هو القانون يمشي على الأرض. وهذا ليس تنظيرا أو تحليقا في الأفق بل هو واقع نعيشه يوميا ، والتجربة خير برهان.
إن من المفضوحات بيان الواضحات، لكني على سبيل تجلية الأمور استمحيكم عذرا في القول بأن مجتمعنا مكون منا جميعا ، نحن الذين يمشون في الأسواق ويقودون المركبات على الطريق ويتدافعون يوميا في مسيرة الحياة، وليس أشخاصا افتراضيين ، ودولتنا عبارة عن كيان مركب من مجتمعاتنا الصغيرة التي هي بدورها مكونة من أسرنا وهي بدورها مكونة من أفراد؛ فمن عند كل فرد منا يبدأ بناء الدولة، وبيد كل واحد منا يمكن لمجتمعاتنا أن تتطور إلى حيث نريد، لا الوقوف على الأطلال والمراقبة من بعد لجلب الغنائم أو الفرار. على كل منا أن يجعل من نفسه وأسرته أنموذجا مصغرا للمجتمع الذي يود أن يراه ، وعلينا أن نتذكر أن الفصل بين المجتمع الداخلي الصغير (ضمن إطار الأسرة أو القبيلة أو الحارة) والمجتمع الخارجي الكبير (الوطن أو العالم) فصل وهمي مضلل، فلم يعد العيش في فقاعة ممكنا الآن، ولم يعد التحكم في موجات البث والتقاط الأثير متاحا الآن، ولم يعد بإمكاننا أن نحدد ما يطمح إليه أبناؤنا، ومع تداخل وسائل التقنية وتشابك العلاقات الاقتصادية وووضح مدى التعامد والتأثير المتبادل بين المجتمعات البيئية والثقافية، لم يعد بإمكاننا أن نقول (إن سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي).
إن نحن رغبنا فعلا في بناء مجتمع يترجم طموحاتنا علينا جميعا أن نشارك في هذا البناء، أخذا بعين الاعتبار الفروقات الفردية التي تضم القدرات الجسدية والمهارات الشخصية والملكات الاجتماعية والموارد المادية، فكل منا ميسر بطريقة أو بأخرى للقيام بدور فاعل صغيرا كان أو كبيرا في بناء هذا الوطن والمجتمع. هذا الدور قد يكون أما حنونا أو أبا رؤوما أو أخا هاديا أو أختا أنموذجا أو رئيسا في العمل منصفا أو سائقا على الطريق مهذبا أو متسوقا قنوعا، دور البعض منا قد يكون في أن يعيش حياة أخلاقية مثلى، ودور البعض الآخر قد يكون في أن يطلق صفارات الإنذار، ودور غيرهم قد يكون في إشاعة العلوم والجمال والأدب والفنون وتحرير الأفكار، ودور غيرهم قد يكون في ضبط الأمن والسلامة، لكن علينا جميعا أن نتذكر رسالتنا أن نكون بشرا (لا ملائكة) ندعو إلى الخير بجميع أشكاله ونعيش هذه الدعوة، وننهى عن الشر بجميع أشكاله وألا نأتي ما ننهى عنه.
إن الدولة الفتية لا محالة متجهة إلى الشيخوخة والكهولة إلا إن قُيِّض لها من أبنائها وبناتها من يعيش قيمها الحقيقية ويطبق الناموس الأبدي للأخلاق الجمعية التي فطرنا عليها ، وينفث في مجتمعه ومحيطه إكسير الوجود ويرفدهما بدم يعيد إليهما الحياة لتبدأ الدولة من جديد فتوتها، على ألا يعمينا ذلك عن أن الشيخوخة مقبلة مرة أخرى، مما يتطلب منا آذانا مصغية وعيونا مترقبة ومتشوفة لأعراض الشيخوخة كي نبحث عن دماء جديدة وأفكار جديدة تديم علينا البقاء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
* باحث مستقل مهتم بالشئون السياسية وحقوق الإنسان والحوار jicfa@yahoo.com