الذاكرة الجمعية، المشهد المبتور من الصحافة العمانية

في المقال الذي كتبه المدوّن بدر العبري 2013 في مجلة الفلق الإلكترونية، بعنوان “تيم لاندن لورنس العرب المعاصر”، وذكر فيه أن سيرة تيم لاندن كواحد من أهم المؤثرين في تغيير المشهد السياسي في عمان، لم يتم تناولها كما ينبغي خاصة في المراجع العربية؛  لذا لا يمكن تكوين صورة واضحة الملامح عن الرجل الذي شارك في صياغة تكتيكات ما عُرف لدى بعض الباحثين بعملية الانقلاب على السلطان سعيد بن تيمور، وكانت له بصمة واضحة في السياسة العمانية في الداخل والخارج. 

لعل شح المعلومات حول تيم لاندن يمكن أن يعود لشخص لاندن نفسه، وهو الرجل الذي عرف بسريته التامة، وقلة ظهوره العام؛ لكن الأمر لا يقتصر على تيم وحده، فلقد بات ظاهريا لأي باحث حتى لو لم يكن باحثا أكاديميا مشتغلا على المصادر العلمية المحكمة، تلك الصعوبات المتعلقة بتتبع السياق المعرفي (معلومات وآراء) الموثق في الإعلام المحلي، حول أحداث محلية ودولية عن عمان، ما لم تنشر الحكومة شيئاً عنها، أو تمنح الضوء الأخضر للإعلام لتخصيص التغطية المناسبة حولها، فإذا كانت أحداث كثورة ظفار وحرب الجبل الأخضر، قد وقعتا في فترة زمنية لم تشهد فيها عُمان صحافة بالشكل الذي نراه الآن، لكن أحداثا أخرى وقعت بعد ذلك بسنوات، وعلى مرئ ومسمع صحفيين ومتخصصين في مختلف المجالات العلمية والإنسانية، يروون الأحداث بألسنتهم، ولا يجرؤون على الكتابة عنها؛ لأسباب مختلفة أهمها الهواجس والمخاوف الذاتية والخارجية التي تثيرها السلطة، أو الشعور العام أن ثمة قيود تحيط بالعمل الصحفي في البلاد، وقد تنعكس على رفض نشر بعض هذه المعلومات والآراء بفعل قرارات إدارات التحرير.

لا يختلف اثنان، حول طبيعة المشهد الصحفي والإعلامي في عمان، خصوصا عند تناول واقع الصحف اليومية، ولاسيما وأنها تعبر عن مشهد فعلي لواقع هذه الصحافة، والتي تكتفي بمراقبة الأحداث داخليا وخارجي، ونشر البيانات الجاهزة مع إضافة تصريحات حصرية من بعض المسؤولين، فيما يتعلق بالشأن الحكومي والسياسة العامة، ونادراً ما يتم التطرق لموضوعات وأحداث لا ترتبط بالجهات الرسمية، لاسيما وإن تزامن ذلك مع توجهات حكومية لا تتفق مع هذه الأحداث، أو أن بعضها قد يثير غضب كبار المسؤولين في الدولة، وحتى مع وجود 5 صحف ناطقة باللغة العربية؛ فإنه لا يمكن أن نلتمس نحن كقراء الفارق الذي تصنعه هذه الأخبار الصحفية التي تنشرها هذه الصحف. ولعل ما يمكن أن تنفرد به كل صحيفة من فترة زمنية لأخرى، هي التحقيقات الصحفية التي غالبا ما تتشابه في المواضيع، وتختلف في آلية الطرح، دون الولوج للمعالجات الصحفية الملائمة مع سياق القضايا. ومن الملاحظ بروز القضايا الاجتماعية، وبعض الموضوعات الاقتصادية، كمواضيع أساسية في هذه التحقيقات الصحفية.

إن هذا النهج العام الذي تتخذه المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة في عمان، أثر بشكل ملحوظ على خارطة العمل الصحفي، ورؤيته في البلاد، وأدى إلى تغييب الكثير من الأحداث عن المشهد و شطبها من الذاكرة الجمعية والتاريخية، أو حتى التعمق في تفاصيلها في أحسن الأحوال؛ ففي القضية التي عرفت إعلاميا بـ “التنظيم السري” في عام 2005، يمكن لمتتبع الإعلام المحلي أن يجد أن الأخبار التي صدرت حول قضية تمس أمن الوطن، كانت تقتصر على خبر المحاكمة، وهي المرة الأولى التي تسمح الحكومة فيها بنشر معلومات، وإصدار بيان للنشر في قضية كهذه _ باستثناء التغطيات الإعلامية التي تزامنت مع حرب ظفار والتي تأخذ وضعاً استثنائياً نظراً للاهتمام العالمي والعربي وتغطيتها لمجريات الأحداث آنذاك ، علاوة على كونها حدثت قبل رسم إستراتيجية محددة للإعلام العماني والتي اتضحت معالمها فيما بعد مع دخول أنطوني أشوورت* في المشهد الإعلامي في عمان ورسمه للخطوط التي أنتهجها الإعلام إلى يومنا هذا _ ، إضافة لخبر العفو ومقابلات صحفية يعبر فيها من عُفي عنهم وذويهم عن فرحتهم وتثمينهم للعفو دون أي اشارة لمجريات الأحداث، أو أي تحقيق يرصد تسلسل القضية، أو حتى حوارات مع الأشخاص المتورطين في القضية، ويشغل عدد منهم الآن وظائف رسمية في الدولة وفي مؤسسات المجتمع المدني.

أما الحدث الآخر والأقرب إلى الذاكرة؛ فهو أحداث 2011 أو ما سُمي بحراك عام 2011، وهو الحدث الذي أدت فيه بعض الصحف العمانية أدوارا خبرية، بينها نقل أخبار لأعمال تخريب واعتصامات في صحار ومسقط، لتسارع هذه الصحف لتقليص التغطية، ويتوقف إمداد المعلومات عبر وسائل موثوقة، ويكتفي المتابع بتلك التغطيات المتفرقة عبر الشبكات الاجتماعية، ثم تُبنى لاحقا خطة إعلامية تقوم على تغطية الإصلاحات الحكومية والأوامر السامية المعالجة لحدة الأوضاع حينها. ويمكن ملاحظة أن هذه التغطيات كانت قد اتسمت بأحادية المصدر، وضعف المعالجة الإعلامية، وتقليص الرؤى، وسيادة اتجاه أحادي، ولعل أهم توضيح لذلك، هو اتفاق كل وسائل الإعلام على استبدال كلمة “إصلاح” بـ”تطوير”، استجابة للتعميم الذي أصدرته وزارة الإعلام حينها، حول استبدال بعض المصطلحات، وهنا يمكن قياس مدى تأثير الدولة على قطاع الإعلام، بشقيه العام والخاص، حتى فيما يتعلق بمصطلحات النشر، ومدى استجابة الصحافة العمانية العالية لتوجيهات الحكومية المتمثلة في أشكال رقابتها المتعددة في مختلف المسائل الخلافية.

وقد لا يبدو للقارئ الذي تتعدد اليوم أمامه مصادر الأخبار والمعلومات، أن الأمر يشكل خطراً أو هاجسا مقلقا على أقل تقدير، ما دام بإمكان الجميع الوصول للخبر من مصادر مختلفة وبسرعة هائلة، ولكن بالعودة للوراء 5 أعوام على أقل تقدير، وهي المدة التي يسهل استحضارها في الذاكرة، فمن السهل القول أننا لن نجد صورة متكاملة موثقة عن المشهد، أي أن أي بحث أو إصدار توثيقي للمرحلة، سيكون مبتوراً وناقصاً؛ لأن الشواهد غير متوفرة. إن التغييب الذي نلمسه اليوم في تاريخ عمان في أحداث قبل 50 و40 سنة من الآن، سيظل كما هو في أحداث مرت قبل 10 و5 سنوات أيضا، فالأدوار الصحفية لا يمكن فصلها عن مهامها التاريخية والتوثيقية، وتلك مهمة لن تؤديها سوى الصحافة مهما تغيرت تقنياتها وأشكالها.

ختاما، لا أجد أفضل من استعارة مقولة جورج أوريل التي أعتبرها نقطة الارتكاز في العمل الصحفي، وممارسات الصحفيين: “الصحافة هي أن تنشر ما لا يريد أحدهم أن يراه منشوراً، فيما عدا ذلك فهي مجرد أخبار علاقات عامة “

ميساء الهنائي

  • انطوني أشوورت هو أحد الضباط البريطانيين الذين تم تعيينهم بواسط تيم لاندن كمستشار لوزير الإعلام العماني في 1975 وطرد من عمان في بداية الألفية وكان أحد أبرز المؤثرين في رسم السياسة الإعلامية لعمان حسب ما ورد في كتاب جون بيسينت ” عمان القصة الحقيقة و المؤامرة على دولة عربية “الصادر عام 2002