خطاب شمولي وبسيط

ومضات مدنية 19

من المحاور التي ترتكز عليها سيادة القانون في الدولة المدنية تجويد الصياغة التشريعية وتبسيطها التي تستند إلى جملة من الأمور من بينها الفلسفة التشريعة واستراتيجية تناول السلوكيات الاجتماعية (سواء أكانت في مرحلة الظاهرة أم قبلها)، والصياغة التشريعية عموما لها مدرستان تقليدية وحديثة، وأنا لست بصدد التمييز بين المدرستين فهذا ليس بالمقام المناسب، ولكني بصدد الحديث عن أهمية الصياغة التشريعية في استقامة أمر الدولة وسيادة القانون بها.

فالصياغة التشريعية ليست عملية لغوية صرفة تتناول التشريعات المقارنة والقوانين المتشابهة ومن ثم انتقاء المناسب منها وتعديل الاخر ومعاملتها على أنه ليس بالإمكان إلا ما قد كان، إنما الصياغة التشريعية وسيلة لاستيعاب الأطراف الداخلة أو لربما المتداخلة في موضوع أو قضية أو مشكلة ما بقصد الوصول إلى حل جذري لا عرضي يتناول جميع الأطراف حتى وإن بدوا غير مؤثرين أو غير مباشرين، فمعظم النار من مستصغر الشرر.

ومن هذا المنطلق فإن المجالس التشريعية والمحلية والبلدية وغيرها من المجالس المختصة على جميع مستوياتها في الدولة المدنية، التي يشغل الإنسان موقع محورها الأساس، لا يتوقع منها إصدار قوانين فحسب بل يتوقع منها أن تقوم بتحليل السلوك (سواء أكان اجتماعيا أم سياسيا أم ثقافيا أم تجاريا أم غيره)  المرغوب في تربيته أو بالمثل السلوك الذي ترغب في الحد منه أو تغييره كلية، وتأخذ على عاتقها أن تشخص بالضبط ما هو الوجه المرغوب (أو بالمثل المنبوذ) من هذا السلوك (ما أسميه الماهية) ولماذا هو مرغوب أو منبوذ (ما أسميه العلة أو الأثر)، كما تأخذ على عاتقها أن تحصر جميع الأطراف ذات العلاقة بالسلوك قيد التنظيم ، ومدى إسهام كل منهم في هذا السلوك سلبا أو إيجابا، وما هي الظروف التي يمكن أن تخفف أو تشدد من أثر مساهمتهم.

أحمد بن علي بن محمد المخيني*
أحمد بن علي بن محمد المخيني*

بعد هذا الحصر والتحليل، وأخذ وجهات النظر المختلفة والاستماع إلى جميع الأطراف، تقوم الدولة المدنية ممثلة بمجالسها باتخاذ القرار الذي تراه مناسبا حيال شكل ومحتوى التشريع، بمعنى هل يكون قانونا أو نظاما أو لائحة أو قرارا وزاريا أو أمرا بلديا، على سبيل المثال لا الحصر. إلا أن المهم في الأمر أن عملية البحث والتمحيص هذه تصب في نهاية مطافها ضمن تشريع يخاطب جميع الأطراف التي تم حصرها، وعلى سبيل التحوط تدرج أحكام لأطراف غير معروفة الآن ولكنها قد تظهر في المستقبل، سعيا وراء إكساب التشريع مرونة وقتية.

إن الهدف من الحديث عن الصياغة التشريعية وآلية العمل المذكورة أعلاه والتي أثبتت نجاعتها ليس ترفا قانونيا أو استعراضا،  وإنما الدعوة إلى إصدار تشريعات لا تتسم بالإجرائية البحتة أو الفوقية الوصائية بما يمثل عادة وجهة نظر الجهات المعنية بالتنفيذ أو التي ترى نفسها مسؤولة عن ضبط هذه السلوكيات، وإنما علينا، واقصد علينا جميعا مؤسسات وأفرادا في الدولة المدنية، أن نضمن إصدار تشريعات تخاطب الجميع كل حسب موقعه ومساهمته ، لأن ذلك أدعى أن يرى المواطن لنفسه دورا في تنفيذ القانون واستتباب سيادته.

إن التشريعات وسيلة مدنية فعالة في تنظيم سلوكيات البشر وضبطها في المجتمعات المتحضرة والمتمدينة التي تعتمد المشاركة العامة مذهبا يتداخل في جميع مناحي الصياغة التشريعية بدءا من الرصد والتحليل ووصولا إلى الخطاب في التشريعات والنظم، أما التشريعات التي تأتي بأسلوب فجائي أو عشوائي أو تسن دون مشاركة الناس أو بغرض فرض توجه دون آخر مدروس، فإنما هي وسيلة لفرض وحدانية الرأي ومدعاة إلى الرفض واللامبالاة.

إن ما ذكر أعلاه يقودني إلى القول بأن الدولة المدنية حقيقة لا تتمترس وراء مقولة بأن الجهل بالقانون لا يعد ذريعة، أو بأن المواطنين غير واعيين بالقدر الكافي الذي يسمح لهم بالمشاركة والإدلاء بالرأي، ولكن الدولة المدنية الحقيقية هي تلك التي تبادر إلى نشر المعرفة القانونية وتجعلها متاحة للعامة على أوسع قدر ممكن وبأكثر من أسلوب وطريقة ولغة، وتركز على تبسيط اللغة القانونية المستخدمة.

إننا إن جعلنا القانون سهل الفهم وفي متناول الجميع، وإن حرصنا على أنه يخاطب جميع الأطراف خاصة الأفراد فإننا سنضمن قدرا متزايدا من احترام القانون والحد من السعي وراء الالتفات من حوله، وهذا، بالتعاضد مع عوامل أخرى، بطبيعة الحال سيؤدي إلى احترام سيادة القانون وتمكنه واحتكام الناس له بدرجة متزايدة وتعاظم الرغبة في المشاركة في صناعته وصياغته.  وكذا فإن خطوة بسيطة في إجراءاتها كتبسيط القوانين هي عظيمة في مغزاها وتغدو أعظم في مؤداها، ليدرك الجميع قناعة بأن الجميع يقع تحت حكم القانون.

* باحث مستقل مهتم بالشئون السياسية وحقوق الإنسان والحوار  jicfa@yahoo.com

 

2 تعليقات

Comments are closed.