“التواصل الاجتماعي”.. جرأة غير معهودة

وكأنَّ الأحداثَ في الساحة العمانية في الأيام الماضية -القريبة أو البعيدة والحالية، والقادمة- التي لا يُمكن لي أن أحدِّد مساحتها وامتدادها في الزمن القادم -هذا إذا كتب لها أن تستمر، ولم يطرأ طارئ جديد في الساحة يحجبها أو يتجه بها وبنا إلى طريق جديدة- وكأنها بكل ما تحمله من غليان في وسائل التواصل الاجتماعي ومن في داخلها تهيؤنا لقادم جديد يتمخض حتى يخرج لنا مولودًا لن يخرج عن عدة توقعات لشكله؛ فإما أن يكون المولود قانونا جديدا يقلل الحرية الكبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن يكون قانونا يلغي قوانين أخرى عَفَا عليها الزمن، ويحمل رؤوسا حان قطافها، وإما أن يُولد القانونان معا، في ولادة توأمين غير متشابهين، رغم أنهما يخرجان من الرحم نفسه.

هذه الأحداث التي أقصدها أعلاه هي خروج بعض الصحف العمانية بين فترة وأخرى، أو بعض الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، بحديث جديد جريء لم تعهده الساحة العمانية من قبل، صحيح أنَّ أمر هذا الحديث لا يستمر طويلا حتى تطوى دفاتره قبل أن يكتب على أوراقها أحيانا، ولكنه سيبقى بالنسبة لمن يهمه الأمر فتيلة اشتعلت في يوم من الأيام، وغالبا ما تطفأ هذه الفتيلة بفتيلة أخرى لعلة ما أو هكذا دون علل، المهم أنَّ كل هذه الفتائل تتوجه للحديث عن أمر مستور خفي في غالب الأحيان؛ فيُصبح بعدها هذا الأمر الخفي بين يدي الشعب بغض النظر عمَّا إن كانت فراشته احترقت بنار الضوء أم لا، وحتى إن كان الحديث في هذا الأمر الخفي عن مشكلة شخصية لا مشكلة عامة، فلا بأس في ذلك من وجهة نظري في كلا الحالتين؛ فالأمران يقُودان إلى النتيجة نفسها؛ فالمشكلة الشخصية في الحقيقة لا تعني أنها شخصية بحتة، وإن كانت كذلك في السطح؛ ففي عُمقها جذور المشكلة التي تخص المجتمع بأكمله، فإنَّ واجه فرد من أفراد المجتمع سوءَ معاملة من موظف يقوم بوظيفته مثلا لا ينبغي علينا أن ندفن رأسنا في التراب؛ بحجة أنه مجرد موقف شخصي بين اثنين، بل نذهب إلى أبعد من ذلك بكثير؛ بحيث يتوقَّد الحس الشرطي/الصحفي فينا ليذهب بنا إلى صياغة فرضيات للأمر تمكِّننا من أن نغوص في عمق الحادثة حتى نخرج بكشف المستور.

… إنَّ إطلاق الشرطي/الصحفي الذي في داخلنا في وسائل التواصل الاجتماعي هو ما نتج عنه الحديث عن المستور الذي نراه بين الفينة والأخرى؛ من خلال اجتهادات فردية من قبل مؤسسة أو فرد من أفراد المجتمع بغض النظر عن الدوافع التي جعلته يتكلم عن ذلك المستور كما أسلفنا؛ سواء كان بنيَّة الانتقام أو بنيَّة خدمة الوطن وتخليصه من آفة من آفاته، فإنه يتَّجه بنا إلى تغيير نظام قد يكون بسيطا وصغيرا لا يتعدى نظام قسم في دائرة أو أقل من ذلك بكثير، وقد يكون كبيرا لدرجة أنه يساهم في اصلاح امر ما، وأمر الاصلاح في الحقيقة قد يكون أحيانا لابد منه دون الحاجة إلى سؤال: هذا الامر لصالح من؟! مع أن الصحيح أن يكون لصالح الوطن رغم مطَّاطية الكلمة وإمكانية تأويلها بقرارات عدة، كلها تدَّعي أنها لصالحه، وهذا الشيء لا يمكن إثباته قطعا بغير مرور الزمن.

لسنا أول من يمشي في طريق كشف المستور سواءً بشكل فردي أو جمعي، والسعي إلى ذلك دليل من دلائل الشعوب المتحضِّرة التي تعيش في جو ديمقراطي، وحرية صحافة ومنابر إعلامية نزيهة، ولن نكون الأخيرين في هذا الطريق على الإطلاق، وما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي هذه الايام، ليس استثناء مما تناوله في السابق وسيتناوله لاحقا، والعاقل من اتَّعظ بغيره لا من اتعظ به؛ لذا فما علينا سوى أن نستفيد من هذه التجارب، وأن نسبح في أعماقها لا في سطحها؛ فالسطح خادع كما كان في فضيحة ووترجيت، وهي الفضيحة السياسية الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث راح ضحيتها نيكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، مع أنَّ المسألة في شكلها البسيط إلقاء القبض على خمسة أشخاص ينصبون أجهزة تسجيل ضد الحزب الديمقراطي، فلو وقف الشرطي/الصحفي هنا وقدَّم خبره بذلك الشكل لانتهت المشكلة عند هذا الحد، لكن الصحفي الشكاك بطبعه في كل شيء قاده شكه إلى البحث عما وراء الخبر ليصل إلى البيت الأبيض وتتفجر الأزمة ويقدم الرئيس للمحاكمة ويستقيل.

الشاهد في هذه القصة أنَّ الصحافة هي البطل في كشف هذه اللعبة من خلال لعب دور المحقق أو بكلمة أخرى -أكثر عمقا- دور المتقصي حتى وصل إلى البيت الأبيض، وهذا لا يعني أن المصطلح أو الفعل كانت بدايتهما في هذه المرحلة؛ فقد كانت البداية قبل ذلك بكثير حين ظهر ما يسمى بـ”الصحفيين المنقبين عن الفساد”، وتطور الأمر حتى ظهر مصطلح “الصحافة الاستقصائية” لتهيِّئ لها الأسباب المادية الانتشار الذي كانت تحتاج إليه، مسلطة سيفها على كل ما يمكن له أن يمس الدولة وأفرادها بسوء، مركِّزة نشاطها على الفساد الحكومي في الأنشطة الاقتصادية والسياسية لعلاقتهما الوثيقة ببعضهما البعض على وجه خاص، والآن أعود إلى ما بدأت به الحديث أولا وهو الجهود التي نراها من بعض المؤسسات الصحفية، أو التي تظهر بشكل فردي بين فينة وأخرى من قبل بعض الأشخاص في كشف مستور ما: هل يُمكن لها أن تؤسس لصحافة استقصائية في المستقبل، خاصة وأن وسائل الإعلام العمانية نفَّذت أكثر من مرة دورة تدريبية لإعلاميينا في الصحافة الاستقصائية؟! وهل يعني هذا التدريب تأهيلا للأيام المقبلة؟! أم أنه مجرد برنامج تدريبي والسلام؟!! ويبقى أنَّ نقول إنَّ الاستقصاء يجتثُ المشكلة من جذورها، ولا يكتفي بالإشارة إليها فقط؛ فهل سنكون في الأيام المقبلة أمام ووترجيت محلية؟.

محمد خلفان

صحيفة الرؤية