لوائح وقوانين “بلا رقابة دستورية!”

 

إن فصل السلطات في الدولة – بالمعنى العام – هو تحقيق الاستقلالية للسلطات في إنجاز أعمالها في حدود اختصاصها، فالسلطة التشريعية تقوم بتشريع القوانين، والسلطة التنفيذية تقوم بوضع هذه القوانين محل التنفيذ، وتقوم السلطة القضائية – متمثلة بالقضاء العادي والإداري – بالفصل في القضايا الناجمة من مخالفة القوانين المقرة من قبل السلطة التشريعية.

لكن يحدث أحيانا أن تتجنّى سلطة على سلطة أخرى في اختصاصها, فتجد السلطة التنفيذية تصدر لوائحا معارضة للقوانين التي أصدرتها السلطة التشريعية, أو تقوم السلطة التشريعية بإصدار قوانين مخالفة للدستور أو النظام الأساسي للدولة, أو تكون هناك أزمة اختصاص في المحاكم بخصوص بعض القضايا بين القضاء العادي والاداري. وعليه, يكون فصل السلطات – بالمعنى الضيق – نسبيا ومحكوما بآلية قانونية تضمن بقاء السلطات في حدود اختصاصها, وهذا ما تضطلع به المحكمة الدستورية.

ولضرب مثال على أهمية هذه المحكمة التعارض الحاصل بين المادة 4 من قانون الاجراءات الجزائية في إعطاء جهات الأمن العام حق التنسيق مع الادعاء العام مختصة بالتحقيق في القضايا المتعلقة بأمن الدولة والارهاب مع المادة 64 من النظام الاساسي التي تنص: “,, ويجوز أن يعهد، بقـانـون، لجـهـات الأمن العـام بتولي الدعوى العمومية في الجنح على سبيل الاستـثـنـاء، ووفقا للأوضاع التي يـبينها القانون”, فهنا تدخل في الولاية الأصلية للادعاء العام إذ أن الأصل أن ينسق الادعاء العام مع الجهات الأمنية بخصوص التحقيق وفقا للنظام الأساسي وليس أن تنسق الجهات الأمنية معه وفقا لقانون الاجراءات الجزائية, فالأصل هو الادعاء العام والاستثناء هي جهات الأمن العام.

هناك تضارب  آخر بين المادة 50 من قانون الإجراءات الجزائية التي تنص بأن يقوم مأمور الضبط القضائي بإحالة المتهم إلى جهة التحقيق الخاصة لمدة 15 يوما في الجرائم المتعلقة بأمن الدولة وقانون الارهاب، وبين المادة 64 من النظام الأساسي التي قننت الاستثناء في الجنح فقط. فالقانون عمّم ما خصصه النظام الأساسي ووسع من صلاحيات جهات الأمن العام.

نصت المادة 70 من النظام الاساسي أن: “يعـين القانـون الجهـة القضائية التي تختص بالفصل في المنـازعات المتعلقـة بمـدى تطابق القـوانين واللـوائح مع النظام الأساسي للدولة وعـدم مخالفتها لأحكـامه، ويبين صلاحياتها و الاجراءات التي تـتبعها”.

وبناء عليه، نصت المادة(10) من قانون السلطة القضائية بإنشاء هيئة – عند الحاجة – في المحكمة العليا للفصل في القضايا المتعلقة بالتنازع الايجابي والسلبي في الاختصاص بين المحاكم، سواء كانت المحاكم العادية أو الإدارية أو بينهما. وكذلك نصت المادة (11) بنظر هذه الهيئة بقضايا التطابق بين اللوائح والقوانين مع النظام الأساسي.

هنا يبرز بعض الإشكال بخصوص هذه المادة. فمن الطبيعي أن تفصل المحكمة العليا في تنازع الاختصاص الإيجابي أو السلبي بين المحاكم في القضاء العادي، أما أن تكون محكمة القضاء الإداري خاضعة بالفصل في اختصاصها للمحكمة العليا فهذا يخل بمبدأ استقلالية السلطة القضائية.

فالمحكمة الإدارية معنية بالقضايا الإدارية المثارة من أو على السلطة التنفيذية.  ناهيك أن المحكمة الإدارية ليس لها إلى الآن درجة قضائية في العليا لكي يكتمل استقلالها.

المطلوب جهة قضائية عليا فوق القضاء العادي والإداري لكي تقوم بالفصل في القضايا المتنازع عليها اختصاصيا. فكون رئيس المحكمة العليا هو رئيس هذه الهيئة يجعل من المحكمة الإدارية – التي من المفروض أن تكون مستقلة –  خاضعة لسلطة القضاء العادي! وكذلك الأمر فيما يتعلق بالرقابة على دستورية القوانين واللوائح، لا يمكن لجهة قضائية مختصة بالفصل في قضايا الاختصاص في القضاء العادي أن تنتقل فجأة إلى الفصل في قضايا تطابق القوانين مع الدستور.

إذ كيف يمكن لجهة قضائية تسهر على تطبيق القانون وبعد ذلك تأتي نفس الجهة القضائية وتنقض هذا القانون لمخالفته لمواد النظام الأساسي؟

 

ولتحقيق هذا المطلب، وتفعيلا للمادة 70 من النظام الأساسي، أقر مجلس الدولة في انعقاد جلسته العادية الخامسة من الدور الانعقاد السنوي الأول من الفترة الخامسة بالأغلبية المطلقة مقترح إنشاء محكمة دستورية، وأحال مشروع قانون المحكمة الدستورية في الجلسة السادسة إلى الحكومة المتضمن 43 مادة موزعة على ستة فصول.

 

كان رفض مجلس الوزراء الأسبوع الماضي لمشروع إنشاء المحكمة الدستورية المحال من مجلس الدولة مصدر إثارة للقلق على مستقبل تفعيل الصلاحيات التشريعية والرقابية للمجالس المعنية التي صدر بشأنها المرسوم السلطاني 39/2011، ومصدر هذا القلق هي طبيعة الأسباب التي طرحها مجلس الوزراء لرفضه وإعادته للدراسة في مجلس الدولة.

 

أول  الأسباب التي طرحت هو عدم وجود محاكم دستورية بالدول المجاورة ليستفاد من تجربتها في هذا النوع من القضايا.

في الحقيقة, هناك ثلاث دول خليجية أنشأت محاكم دستورية, فالكويت مثلا أُنشأت المحكمة الدستورية فيها في دستور 1962 وصدر قانونها المنظم بعد عشرة أعوام أي في العام 1973م أسوة بالولايات المتحدة الاميركية التي انشات المحكمة الدستورية في دستورها عام 1789م باعتبارها محكمة تنشأ بواسطة الدستور وليس عن طريق السلطة التشريعية. وكذلك في مملكة البحرين أنشأت المحكمة الدستورية في سنة 2002م وبدأت عملها في عام 2004. أما في دولة قطر فقد أنشأت أول محكمة دستورية عليا مستقلة بتاريخ 18 يونيو سنة 2008م ، وقد كانت في السابق عبارة عن دائرةٍ دستورية في محكمة التمييز ، إلاّ أن هذه المحكمة وقانونها لم يُفعلان عَمليا حتى الآن.

 

أما السبب الثاني فهي نقص الخبرات في مجال المحاكم الدستورية. ولم تفت هذه النقطة مجلس الدولة إذ تم مناقشتها قبل إحالة مشروع انشاء المحكمة إلى مجلس الوزراء،  وأوصت بضرورة استيراد كوادر غير عمانية لتغطية هذا النقص، وإرسال بعثات عمانية إلى الخارج للدراسة في المجال الدستوري حتى يتم تأهيلهم مستقبلا واستبدالها بالأجنبية.

 

 

والسبب الثالث يتمحور في تضارب المراسيم مع القوانين وتضاربها بعد ذلك مع النظام الأساسي. وربما هنا هو بيت القصيد من إنشاء المحكمة الدستورية. فالمحكمة الدستورية تريد أن تفصل في تحديد طبيعة القوانين الصادرة سواء كانت قوانين صادرة من السلطة التشريعية أو مراسيم سلطانية أو أعمال السيادة, وينبغي أن تحدد رتبة القوانين في قوتها بالمقارنة مع النظام الاساسي حتى تتضح الصورة ويستقر الوضع القانوني.

ولقد ذكر المكرم زاهر العبري في رده على إمكانية وضع المراسيم السلطانية تحت النظام الأساسي, إذ اشار إلى أن من المعلوم أن النظام الاساسي للدولة هو النظام الأعلى رتبة ولذلك يتعذر أن تضاف هذه العبارة بعد النظام الاساسي للدولة، بل يمكن أن تكون المراسيم السلطانية شأنها شأن القوانين الأخرى محلا لإثارة نزاع لمدى تطابقها مع النظام الاساسي للدولة. بل أن هناك وصفا صريحا في المادة مادة (58) مكررا (39) من النظام الاساسي لاعتبار المرسوم السلطاني قانونا اذ تنص: لجلالة السلطان إصدار مراسيم سلطانية لها قوة القانون فيما بين أدوار انعقاد مجلس عمان وخلال فترة حل مجلس الشورى وتوقف جلسات مجلس الدولة.

 

وبالنسبة للأوامر السلطانية، ففي التجربة الملكية الدستورية في المملكة الأردنية, يحدد الدستور موقع النطق الملكي السامي والأوامر الصادرة من الملك إلى الحكومة، وبينت المواد 49-51 أن الأوامر الشفوية لجلالة الملك والخطية لا تعفي الوزراء من مسؤولياتهم، إذ جاء في المادة 49 من الدستور “أوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تخلي الوزراء من مسؤولياتهم” كما أن رئيس الوزراء والوزراء بحسب المادة 51 “مسئولون أمام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة، كما أن كل وزير مسئول أمام مجلس النواب عن أعمال وزارته”.

هناك اختلافات بين الدستور الملكي الاردني والنظام الاساسي العماني, فإلى الان لا يوجد رئيس وزراء تفعيلا للمادة 48 من النظام الاساسي, والوزراء مسؤولون مسؤولية سياسية تضامنية أمام السلطان وليس أمام مجلس الشورى حسب المادة 52 من النظام الاساسي. إلا أن تعديل النظام الأساسي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 99/2011 المادة (58) مكرر (43) أعطى صلاحيات جديدة حق أعضاء مجلس الشورى في استجواب وزراء الخدمات فقط, وذلك في الأمور المتعلقة بتجاوز صلاحياتهم بالمخالفة للقانون ورفع نتيجة المناقشة الى جلالة السلطان للبت فيه.

وعليه, فإن المحكمة الدستورية ستكون من مهامها تحديد قوة الأوامر السلطانية أمام الدستور وفقا للصلاحيات الرقابية الجديدة الممنوحة لمجلس الشورى في استجوابهم لوزراء الخدمات فقط.

 

 

ناصر الكنـدي