يد تولستوي تعري النظام: ملكوت الله في داخلكم 4

“حياة الإنسان، الإنسانية، ليست سوى حركة دائمة من الظلام إلى النور”

  1. العنف والتخدير والتمثيل

“النفاق العام الداخل في أجساد ودماء كل شرائح عصرنا بلغ حدوداً بحيث أنه لم يعد يثير استياء أحد، ليس عبثاً أن الهيبوقراطية تعني التمثيل، التصنع، القدرة على لعب أي دور” 270

النظام يربي ويرعى قيام الناس بتمثيل دور الشخصيات، لعب الأدوار المختلفة التي تسمى وظائف في مسرحية وفيلم النظام: “النظام يخدر الناس ويجعلهم يتصرفون وفقاً للشخصيات التي يمثلونها” 258 يتم تلقين الناس منذ نعومة أظافرهم وتأهيلهم ليلعبوا أدوارهم/ وظائفهم المتاحة في النظام: “الضمير منوّم لدى هؤلاء الناس لكنه موجود وهو يتكلم فيهم .. وسرعان ما سيوقظهم” 261

التمثيل إذن؟ ألم يكن أحدٌ يسأل في وقت ما، هل ما نعيشه حقيقة أم تمثيل؟ أليس النظام الذي جعل منا رعاياه يخدعنا ويجعلنا نمتثل لأدوارنا المرسومة، في السيناريو الافتراضي، وبالتالي يسرق حياتنا الحقيقية؟ ألن نرى هنا ونقرأ أن اعتبار الممثلين نجوماً والتركيز في براعتهم التمثيلية هو محاولة غريزية لاستلهام المواهب التمثيلية التي نؤديها في أدوارنا المختلفة، وما أن ننخرط في النظام حتى ننسلخ من كينونتنا الإنسانية، متحولين إلى أداة تمثيلة لخدمة مسرحية النظام، الذي اقنعنا منذ الطفولة ولقننا أهميته، وأنه مسرحيته هي الشكل الوحيد للحياة. حتى لو كان داخلنا يحدس بالعكس.

يشرح تولستوي انطلاقاً من: “لدى أي إنسان همجي هناك شيء ما مقدس هو مستعد للمعاناة في سبيله على أن يتخلى عنه، فأين هذا المقدس لدى انسان زماننا” كيف أن النظام العنيف جعل أهداف الإنسان محدودة الأفق، قصيرة، وذاتية، عبر تحديد خيره الشخصي كمغزى لحياته: “خيره الشخصي هو مغزى حياته، لذا من الأفضل له أن يخضع وهو يخضع” بالتالي تسقط المبادئ العليا لدى إنسان زمان النظام/ الممثل: “ليست لديه مبادئ يمكنه من أجلها مواجهة العنف بمفرده، والذين يحكمون الناس لن يسمحوا لهم أبداً بأن يتحدوا”

بالتالي ،تحت هيمنة القهر العنيف، تصبح الدعوات لترقية وتحضير المجتمع عبر الأنشطة الاجتماعية والناشطين مجرد عبثية: “يتحدث الناشطون الاجتماعيون عن بناء مجتمع رشيد وأخلاقي، أي مجتمع رشيد وأخلاقي يمكن بناؤه من أناس كهؤلاء؟ جذوع الأشجار العفنة والمعوجة لا تصلح لبناء بيت، كذلك ليس بالإمكان بناء مجتمع رشيد وأخلاقي من هؤلاء الناس، يمكن فقط تشكيل قطيع من الأغنام يقاد بصيحات الرعاة، وهكذا الحال” وهكذا لا زال الحال، الإنسانية تتحول لمجرد قطعان بشرية للأنظمة المختلفة أو المتشابهة، للرعاة، ويتحول المجتمع الإنساني الطبيعي إلى مجتمع رعوي وقطعان بشرية. تأتمر بصيحة الراعي. وتغدو الجهود الحضارية مجرد واجهة تزيين. أو حركات عنيفة جديدة.

كان الملك: النظام عارياً طوال الوقت كما في قصة غرتسن التي يستشهد بها تولستوي عن الملك الذي أقنعه خياطان محتالان بأنهما سيخيطان له رداءاً سحرياً لا يستطيع أن يراه الأشخاص الذي لا حاجة لوظائفهم، ولأن الملك يخاف من أن يقال أن لا حاجة لوظيفة الملك يتظاهر أنهُ يرى الرداء، وكذلك يفعل كل الحاشية والبلاط والناس، لكن وحده الصبي يصرخ: الملك عاري، وها هنا الشيخ تولستوي يقول لنا كيف أن النظام: الملك عاري.

  1. تحرير الوعي

تولستوي يبذل كل جهده لتحرير الوعي من مأزقه، “الإقرار بقدسية حياة الناس جميعاً هو الأساس لأي عقيدة أخلاقية” 250؛ إن الوعي الأخلاقي الذاتي في الداخل يعمل، حتى حين يكون المظهر الخارجي مناقضاً: “وضع عالمنا المسيحي إذا نظرنا إليه من خارجه بقسوته وعبوديته للبشر، مرعب بالفعل، أما إذا نظرنا إليه من ناحية تطور وعيه فالمشهد مختلف كلية” 166

تحرير الفهم الاجتماعي، عبر إيقاظ الوعي لتناقض نظامه، والعودة للينابيع التي ظلت الأرواح البشرية متعلقة بها كأمل، مع تخليص تلك الينابيع من الطحالب المتجمعة “على المرء أن يفهم حياته كما علمه المسيح أن حياته ملكه، هدف حياته تطبيق قانون الله” ،174 والتحرر من السلطة البشرية لن يتم في نظر تولستوي إلا بالخضوع للسلطة الأصلية: “المسيحي يتحرر من سلطة البشر عبر إقراره بخضوعه فقط لسلطة الله الذي يعي قانونه، هذا التحرر لا يتم الا عن طريق الصراع، ليس من خلال هدم الأشكال القائمة، بل عبر تغيير فهم الحياة” 175

ثورة الوعي هي الثورة الحقيقية التي ستحرر الانسان من دوامة العنف وحلقته المغلقة، ذلك العنف الذي استطاع خديعة الوعي وتخديره، بالخداع صار يتحكم في المفاصل الدقيقة لحياة الناس، وبالتالي جعلهم عنيفين مثله، لقد أنتجت عملية العنف النظامية بشراً عنيفين بالقانون الذي يجيز مناطق من العنف مشتركة، ليسوغ وينفرد هو بمناطق العنف الكبرى.

يغدو جلياً بعد قراءة تولستوي كيف أن العنف تغلغل حتى في التفاصيل الدقيقة لحياة الأفراد، في تعاملاتهم البينية، في التنافس والصراع من أجل العيش، في تذكية الصراع من أجل النجاح والتفوق على الآخرين، وهزيمتهم وسحقهم والذي يتم تصويره كفوز ونجاح؛ تتحول الحياة بأكملها إلى رغبة في هزيمة الآخرين، والتفوق عليهم، والتملك أكثر منهم، بل واستعبادهم، من الطفل الذي يعلمه النظام التعليمي أن عليه التفوق على زملائه، حتى الموظف الذي يشجعه النظام الوظيفي ليسحق زملائه، إلى المذاهب الدينية والفكرية المتنازعة، وليس انتهاءاً بالأب الذي يمارس العنف على زوجته والزوجة التي تمارس العنف على أبنائها، إلى الشارع الذي يقود فيه الناس سياراتهم بنفس العنف، إلى مراكز التسوق التي يتهافت فيها الناس على البضائع ليفوزوا بها قبل الآخرين. في صور متكاثرة لنفس المنطق الأساسي العنيف.

يغرق المجتمع والشعب بأكمله في الدوامة العنيفة وينفصل أكثر ويتفكك، وبانفصاله يجعل الغلبة للأكثر عنفاً. تغدو الحياة بأكملها مجرد ساحة عنف، كما تغدو التاريخ والغابة في تصور النظام وتصويراته ليسا أكثر من ساحة صراع، ويبلغ ذلك مبلغاً ليكون بموجبه منطق الحياة بأكملها: “فضلاً عن أن العنف يفسد الرأي العام فإنه يخلق لدى الناس القناعة السيئة القائلة أن البشر لا يتطورون بفضل القوة الروحية التي تدفعهم إلى ادراك الحق وتحقيقه، بل بفضل العنف” 207 وذلك هو مأزق الوعي.

لكن الإيمان بالعكس، بالدوافع الروحية العميقة، هو الذي يحرر وعي الإنسان: “يستحيل وضع انسان رغماً عنه في موقع يتعارض مع وعيه” 289 والوعي يتحرر ذاتياً في تماسه وتفاعله مع الطبيعة من حوله:”الإنسان ليس جامداً في علاقته بالطبيعة بل يدركها باستمرار تبعاً لتطوره” 272

  1. الربيع التولستي:

حين يدرك الوعي مأزقه العقلي يتحرر، وهذا ما كان تولستوي يجاهده محاولاً أن يوقظ الوعي لتناقض نظامه، وحين يتحرر الوعي الفردي سيتحرر الوعي/ الرأي العام: “الرأي العام لا يحتاج كي ينشأ وينتشر إلى مئات وآلاف السنين وله صفة معدية للتأثير في الناس، وبسرعة كبيرة يشمل عدداً كبيراً من الناس” 205 هكذا بدا لتولستوي منذ أكثر من قرن أن فرص الحياة الجديدة وابتكارها قائمة: “لم يعد حلماً بل شكلاً جديداً ومحدداً للحياة تقترب إليه البشرية بسرعة مطردة” وهناك منذ وقت طويل كان تولستوي يحلم بالربيع :

“قد يبدو تفتح البراعم على بعض الأشجار في الربيع عرضياً لو لم نعلم أن سبب ذلك هو الربيع الشامل” 217

“هناك أوقات كالربيع لم ينهر فيها بعد الرأي العام القديم ولم يتشكل الجديد بعد، وذلك حين يبدأ الناس بمحاكمة أفعالهم وأفعال الآخرين بناء على ادراك جديد، في حين أن الحياة تستمر بقوة العطالة وبسبب التقاليد” 260 أما كيف سيبدو شكل هذه الحياة الجديدة ف: “لا يمكننا أن نعلم ظروف الحياة الجديدة لأن علينا إبداعها” 212، والطريق واضحة وحق: “الوسيلة الوحيدة لتوحيد البشر هي الحق، كلما تطلع البشر بعزم أكبر إلى الحق كلما اقتربوا أكثر من هذه الوحدة” 271 أما الغاية والمبدأ العلوي ف: “حياتنا لا يمكن أن يكون لها معنى آخر سوى القيام، في كل لحظة، بما تريده منا القوة التي أرسلتنا إلى الحياة، ومنحتنا في هذه الحياة قائداً لا شك فيه: وعينا الرشيد”.

هكذا سيعيد تولستوي تعريف الحرية الحقيقية بوصفها الاتحاد مع القوة العليا: الحرية، الانتماء إلى حياة العالم اللامتناهية، أو إلى الله.290

“لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هو ذا ههنا، أو هو ذا هناك، لأن ها (ملكوت الله داخلكم)” انجيل لوقا 17: 21

إبراهيم سعيد