يد تولستوي تعري النظام: ملكوت الله في داخلكم 3

“حرية الإنسان تكمن في اختيار الحقيقة”

سقوط النظام القيصري والثورة العظمى

اشتعلت الثورة ضد النظام القيصري بعد وفاة تولستوي بستة أعوام تقريباً، وحين نشر تولستوي مقالته في نقد العنف وعدم مقاومة الشر بالعنف كان ممن رد عليه مكسيم غوركي (وهو أحد الكتاب الروس الذين قدمتهم الثورة بوصفهم أدبائها) قال غوركي “أنا لا أعرف شعاراً أكثر إهانة للإنسان من الشعار الذي أعلن عن عدم استطاعة مقاومة الشر والحرب من أجل هدفه” كما يذكر ذلك كتاب (صفحات مجهولة من حياة تولستوي ك. لومونوف) علاء الدين للنشر. رغم العلاقة الوثيقة التي جمعت الكاتبين غوركي الشاب وتولستوي.

فيما بعد أخذ النظام الشيوعي يفسر تراث تولستوي وفقاً لوجهة نظر (الثورة الاشتراكية العظمى) تلك العظمة التي سقطت في تسعينيات القرن العشرين قبل أن تكمل شمعة مائة عامها الأولى، وتمزقت. أما تراث تولستوي نفسه فواضح في أنه لم ينخدع بدعاية النظام الحزبية: “السلطة الجديدة لن تكون أبداً أقل قمعاً من السابقة، بل بالعكس، عبر دفاعها عن نفسها من أعدائها الحانقين الذين أسقطتهم، ستكون أشد استبداداً وقسوة، كما يحدث في كل الثورات” 163، كان واضحاً  أن تولستوي ضد أي ثورة تريد أن تقاوم النار بالنار على حساب أجساد الناس: “كل الثورات ومحاولاتها والمؤامرات وتغيير السلطة بالعنف، صراع يقوي وحسب وسائل الاستعباد لدى أولئك الموجودين في السلطة في الوقت الراهن”

كان واضحاً لتولستوي وهو حي أن الثورة والنضال كانا يصبان المكاسب في يد نفس النظام الذي يدعيان أنهما يعاديانه ويقاومانه: “بقي حقل واحد لنشاط البشر لم تهيمن عليه السلطة بعد: الحقل الأسري والاقتصادي، حقل الحياة الخاصة والعمل الخاص. وهذا الحقل بفضل نضال الشيوعيين والرأسمالين تستولي عليه الحكومات شيئاً فشيئاً” ألا يمكننا إذن بالتالي أن نقرأ، انطلاقاً من عمل تولستوي، ان الشيوعية والرأسمالية ليستا أكثر من وليدتين جديدتين لنفس نظام العنف الذي كانا يسعيان لمقاومته بنفس العنف؟

ألم تكن دعوة الاشتراكية إلا تطويراً لنفس النظام: “دعوة العبودية ينشرها ليس الحكومات وحدها بل كذلك الذين يعتبرون أنفسهم أنصار الحرية ممن يبشرون بالاشتراكية” 177، نفس أهداف الاستعباد لكن بصبغات مختلفة، مع الحفاظ على نفس الأسس والجذور العنيفة: “يروج هؤلاء الناس أن تحسين الحياة وتحقيق التوافق بين الواقع والوعي لا يحدث نتيجة جهود فردية بل سيحدث تلقائياً نتيجة إعادة بناء عنيفة معينة للمجتمع من قبل أحدهم” صارت العبودية للعنف مبررة باسم العلم وبالطريقة العلمية وأسلوب النظريات: “من ناحية اقتصادية يروجون لنظرية مفادها أن الأسوأ هو الأفضل: كلما روكم رأس المال أكثر، وبالتالي ازداد اضطهاد العمال، كلما بات التحرر أقرب, وبالتالي كل سعي شخصي من قبل الانسان للتحرر من قبضة رأس المال بلا فائدة؛ كلما أصبحت الدولة أكبر، تهيمن على الحياة فهذا أفضل، يروجون أن زيادة وسائل التدمير سيؤدي إلى نزع السلاح، والمثير للذهول أن البشر من البلادة بحيث يصدقون هذه النظريات رغم أن مسار الحياة كل خطوة إلى الأمام يفضح عدم صحتها” 177، ونحن نعلم اليوم أن الأمر تجاوز تصديقها إلى بذل الدماء في سبلها.

لم تكن كلمات تولستوي الاستشرافية باهتة، بل ذات حضور واضح جلي في ثنايا اللغة الروسية، ولها رنين مميز ينشأ من شهرة تولستوي نفسه وأعماله في نهاية التاسع عشر وبدايات العشرين ليس في روسيا القيصرية وحدها بل في العالم أجمع: “ما من أضلولة تبعد البشر عن الغاية التي يتطلعون إليها كهذه الأضلولة (الاشتراكية) بالذات. يبتكر البشر أشد الطرق مكراً لتغيير الوضع الذي يسحقهم لكنهم لا يفكرون بالوسيلة الأبسط، وهي أن يكف كل منهم عن القيام بما يخلق هذا الوضع” غير أن الواقع في دوامة العنف عاجز عن أن يستمع ويعي، حتى لو كان الكلام لتولستوي: “الحرب القادمة قادرة على ابتلاع ضحايا أكثر من جميع ثورات القرن الحالي في سنة واحدة” 285

قراء اللغة الروسية لم يكن بإمكانهم لحظتها أن يصدقوا تولستوي ولا أن يصغوا لكلماته، كان العنف والكراهية فيهم قد تأججت وبلغت مبلغها من النظام القائم آنذاك وكانت تبحث عن انتقام، عن ردة فعل مضادة عنيفة مكافئة، لذلك شعروا أنهم أقرب إلى لغة الثورة العظمى، ولذلك انتظموا جنوداً وفق أوامر الكلمات التي ينطق بها الرفيق لينين، هكذا بدت كلمات تولستوي لحظتها كلمات ساذجة وزلة شيخ عجوز يبحث عن عزاء مسيحي، كاتباً مصاباً بمسٍّ من حالة دينية مسيحية، يحاول ربما بها أن يصير قديساً؛ وتولستوي فنان طيب حاول أن يكون دائماً قريباً من الشعب، فلم لا يستحق التقديس والتعظيم؟ بلى يستحق، لكنه لا يستحق أن نصغي له في لحظة الثورة، ضد الظلم، وضد الاستبداد، وضد سرقة حقوق الشعب، وحقوق العمال؛ وكان أن الثورة الاشتراكية العظمى أرادت أن تكون وريثة القيصر والنظام وصارت، لكن الإرث تبدد وضاع منها هي الأخرى ولم تستطع أن تمنع سقوط نظامها البديل، وتبين لاحقاً انها تطابقت وتماهت، وفي الحقيقة تجاوزت، عنف النظام الذي ثارت عليه، ذلك النظام الذي تمت تعرية سقوطه بيد تولستوي، ولم يكن بإمكان الثورة إلا أن تؤجله فقط، بالعنف، لسبعة عقود أخرى حتى حدود القرن التالي وإلى عام 1991م:

“الحكومات تعرف أن ساعاتها معدودة، وليس بمقدورها عمل شيء سوى أن تؤخر ساعة هلاكها” 190، كانت الحكومات تؤخر منيتها بيد أبنائها المتكاثرين الذين يمثلون دور المدافعين ودور الأعداء.

هكذا تنبأ تولستوي منذ قرن: “سيأتي وقت، حتماً، تزول فيه كل مؤسسات القهر في زماننا نتيجة عدم الحاجة إليها، وسخفها، وعدم لياقتها، الأمر الذي يتجلى بوضوح للجميع” 221

لقد تمكن تولستوي عبر استعراض مفصل لحظة التناقض العسكرية من أن يصل لنزع الثياب عن النظام (كل وأي نظام قائم باسم الدولة) أمام الوعي، يفضح تولستوي التناقض عبر تلك التعرية (ستربتيز النظام) في العسكرة: “بلغت تناقضات الوعي، وبالتالي بؤس الحياة، حدها الأخير الذي ليس بالإمكان الذهاب أبعد منه، الحياة المبنية على مبادئ العنف بلغت حد الغاء الأسس ذاتها التي تأسست باسمها. نظام المجتمع القائم على مبادئ العنف أوصل الناس إلى إلغاء المصالح الشخصية والأسرية والاجتماعية والقضاء عليها” 172 .

إبراهيم سعيد