“حل التناقض بين الوعي والحياة ممكن بطريقتين إما تغيير الحياة وإما تغيير الوعي”
اشعال النار في الذات
كيف حدث أن إشعال محمد البوعزيزي النار في جسده صار اتهاماً لنظام زين العابدين بن علي وسبباً في اسقاطه؟ كيف استوعب الرأي والوعي العام التونسي الحالة البوعزيزية، ليس بوصفها محاولة انتحار شخصية لشاب سوداوي، بل بوصفها حالة تعبيرية عن انسداد الأفق، ونهاية النظام؟ هل يمكننا أن نضع ذلك في سياقه المنطقي؟ السببي؟
الكتاب
في 14 أيار يونيو 1893 يؤرخ تولستوي انتهائه من تحرير كتابه ملكوت الله في داخلكم والذي صدرت ترجمته للعربية عن دار وموقع معابر www.maaber.orq بترجمة هفال يوسف في 2010، أي بعد ما يزيد عن مائه عام. لكن بالضبط في نفس العام الذي أشعل البوعزيزي النار في جسده، وأشعلها ثورة عارمة على نظام خانق انتقلت من بلد لبلد، كوثيقة اتهام ضد الأنظمة المختلفة جميعها في هذا العالم، أو العوالم إن شئنا.
أخذت حركات كثيرة في العالم تتداول أفكار تولستوي وتتبناها، ولعل أشهرها الحركة الأناركية، لكنها وقعت في دعوات التمذهب والتحزب والتخندق وبذلك سقطت في دوامة العنف الذي كانت دعوة تولستوي للخروج من دائرته القديمة.
أنهى تولستوي كتابه هذا بعد كتابه الآخر المثير للجدل وقتها (فيم تكمن عقيدتي) والذي كان موجها ضد الكذبة الدينية حيث فضح فيه النظام الديني وتعارضه مع تعاليم المسيح، كان تولستوي أيامها في العقد السادس من عمره، ولد 28 آب أغسطس 1828م وتوفي 7 تشرين الأول أكتوبر 1910م، بذلك يكون الكتاب من مؤلفاته الأخيرة، وغني عن الذكر أن الرقابة القيصرية منعت كتب تولستوي.
أسئلة الشر:
“ما السبيل لحل الخلاف بين البشر عندما يعد بعض الناس شراً ما يعده الآخرون خيراً، وبالعكس؟ يمكن أن يكون هناك جوابان فقط: إما العثور على معيار صحيح لا جدال فيه للشر، وإما عدم مقاومة الشر بالعنف، لقد جُرب المخرج الأول منذ بداية العصور التاريخية ولم يؤدّ، كما نعلم جميعاً، إلى نتائج موفقة. والجواب الثاني عدم المقاومة إلى أن نجد معياراً مشتركاً، وهو الجواب الذي اقترحه المسيح، قد نكتشف أن الجواب الذي قدمه المسيح ليس صحيحاً فنقوم باستبداله بجواب آخر أفضل” ص 45.
الدوامة كائنة في استحالة تعريف الشر بشكل مطلق، من هناك يفكك تولستوي الأمر معتمداً على دعوة المسيح، بالتالي يفضح تولستوي أمام القرن التاسع عشر، الذي كان يدعي أنهُ مؤمن تمام الإيمان بتعاليم المسيح، تناقضه، وتعارضه: “كذبة الدين وكذبة العلم بلغتا حدوداً لو لم نكن نعيشها لما صدقنا بإمكان بلوغ الناس هذه الدرجة من خداع الذات، البشر يعيشون حياة مناقضة لوعيهم منذ زمن بعيد” 277.
عقل العالم (الفلاسفة والمفكرون) لم ينتبه لذلك التناقض القائم؟ “كانت العبودية تناقض كل المبادئ الأخلاقية التي دعا إليها أفلاطون وأرسطو غير أن أياً منهما لم ير ذلك لأن إلغاء العبودية كان سيهدم مجمل الحياة التي كانا يعيشانها” وهذا ما حدث أيضاً للأدب “يا لغنى الأفكار والأشكال والألوان، يا لسعة العلم والفصاحة ووفرة الأفكار، لكن يا لانعدام المضمون الجاد، بل ويا للخوف العام أمام أي دقة للأفكار وتعبيراتها، يا للمواربات والاستعارات والنكات والمفاهيم الشاملة العامة، لكن ما من شيء بسيط وواضح يتعلق بالأمر: أي بسؤال الحياة” 114.
ظلت السلطة من جراء نظام العنف تؤول دائماً للأكثر عنفاً، وهكذا قامت الأنطمة على العنف واحتكاره، باستخدام القوة: الجيش، بينما لم يكن الجيش إلا شكلاً جديداً من العبودية: “يتميز العبد بأنه شيء، بأنه أداة بيد سيده وليس إنساناً” 109 والجيش أداة عنف : “جيوشنا حشود عبيد خاضعين لمن يحكم” 109 والجيش هو السلاح الذي يمسك به النظام، فسلاح العنف يصبح هو: زمام السلطة: “السلطة تكمن في أجهزة القوة والعنف وهي الجيش والعسكرية” 240 بالتالي يخضع الناس في الجيش للعنف “جبروت الجيش قائم على الكذبة التي تحلل الناس من طاعة الله والإذعان لضمائرهم وطاعة قائد عرضي ما” 243 وسلاح النظام هو نفسه سلاح الجريمة: “ما من جرائم أشد هولاً مما يستطيع الجيش ارتكابه” 250 وبذلك السلاح تقوم الحكومة وبالتالي النظام باستعباد الرأي العام: “الحكومة ليس من صفاتها الخضوع بل الإخضاع، لا يمكنها التخلي عن سلطتها طوعاً، والجيش هو الذي يمنحها هذه السلطة لذا فهي لن تتخلى أبداً عن الجيش وعن استخدامه” وما نسميه نظاماً وسلطة كامن أساساً هناك في تلك العبودية الأساسية للعنف والتي تسمى عسكرية، العبودية التي تحمي الجريمة.
المرض
يقتبس تولستوي من مونتيسكيو: “البلاد سوف تهلك بسبب المحاربين، لقد انتشر مرض الحرب في أوروبا، ووصل إلى الملوك وهو يحوجهم إلى امتلاك القوات، وما أن تزيد دولة قواتها حتى تفعل الأخرى الشيء ذاته، ولن ينتج عن هذا سوى الهلاك الشامل” حيث الفقر نقيض الملكية: “نحن فقراء رغم امتلاكنا ثروة وتجارة العالم برمته”، حالة توازن القوى تسمى سلاماً: “البشر يسمون حالة توتر الكل ضد الكل سلاماً!”.
يستشهد تولستوي أيضاً بأحد كتابه المفضلين دي غي موباسان: “حين يحدثوننا عن أكلة لحوم البشر نبتسم بتكبر، شاعرين بتفوقنا على المتوحشين، لكن من هم المتوحشون الحقيقيون؟ هل الذين يقتلون كي يأكلوا المغلوبين؟ أم الذين يقتلون كي يقتلوا، فقط لكي يقتلوا؟”126 فالحضارة ليست غلبة العنف: “ما الذي تركته لنا اليونان؟ الكتب وتماثيل الرخام، هل هي عظيمة لأنها انتصرت أم جراء ما أنتجته؟” أما الدولة ونظامها فقد قامت بتحويلنا: “كففنا عن أن نكون بشراً وصرنا أشياء ملكاً لشيء مختلق ندعوه الدولة والتي تستعبد الجميع باسم إرادة الجميع في حين أن كل واحد منا يريد تماماً عكس ما يرغم على القيام به” وكان هناك دوماً من يذكي النار: “الفقراء بالروح المخدوعين برنين الكلمات ألهبوا كراهية الشعب ضد بعضه البعض”.
تلك الاقتباسات أفادت اثبات ظواهر المرض الأوروبية للعنف، وهنا يمد تولستوي يده لتعرية النظام المريض ابتداءاً من رأسه: عقله: “المتسلطون متيقنون من أن العنف هو الذي يحرك البشرية ويقودها، لذا يستخدمونه بجرأة للحفاظ على النظام القائم، في حين أن النظام القائم يظل قائماً ليس بفضل العنف بل بفضل الرأي العام الذي يخل العنف بتأثيره، لذا فإن عمل العنف يضعف ما يريد الابقاء عليه ويخل به” 206 لنلاحظ كيف العنف يعمل ضد نفسه مخلاً بنفس الأسس التي يقوم عليها (الرأي العام) بالتالي الوعي العام.
وبما أن اعمدة النظام مستفيدة منه فهي متورطة حتماً: “ليس بمقدور أي ملك إلا أن يؤمن بثبات وقدسية النظام القائم، فكلما علا منصب الشخص كلما كان أنفع له، والناس يؤمنون برسوخ النظام القائم لأنه بشكل رئيسي مفيد لهم” 237.
إبراهيم سعيد