“ومضات مدنية”: الحاكم = المحكوم

 

إن أهم ما يميز الدولة المدنية أنه لا يمكن اختزالها في أشخاص محددين أو رموز بعينهم أو نخبة من الناس دون غيرهم؛ فهي ملك لجميع أفراد الشعب، وتنبع شرعيتها من الشعب. والدولة اصطلاحا لا تعني الحكومة أو رئيس الدولة وأعوانه من الوزراء والعسكر فحسب، وإنما هي منظومة أطراف وعناصر وخواص تنبثق من النسيج الاجتماعي للشعب (نساء ورجالا وأعراقا ولغات وثقافات وعقائد وأنشطة وغيرها من العناصر) بالإضافة إلى الأرض وموارد الرزق والإدارة (أو الحكومة) ، وجميع هذه تتعامل مع بعضها البعض تحت إمرة نظام حكم متوافق عليه وبحكم القانون الذي يتوجب على جميع الأطراف والعناصر احترامه.

أحمد المخيني – للتواصل مع الكاتب* : jicfa@yahoo.com

ولذا فمن الأهمية بمكان التأكيد مرة أخرى على ضرورة التمييز بين الدولة التي تضم جميع هذه العناصر والحكومة التي هي الجهة الإدارية المكلفة بالقيام بوظائف محددة ومقيدة من خلال أفرعها الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية). والخلط بين الدولة والحكومة أمر شائع ييسر التواكل والخمول والدعوة إلى عدم الالتفات إلى الأمور العامة للدولة والشعب كونها أمرا خاصا لفئة دون غيرها. وفي هذا الخصوص يتلاقى مرة أخرى الفكران المدني والإسلامي – إن أخذنا بالفصل بينهما مرجعيا – في أن سيد القوم خادمهم والعكس صحيح، وذلك من خلال أمور ثلاثة متضافرة لا يمكن لأحدها أن يتم دون وجود الأمرين الآخرين وهذه الأمور هي: النصيحة والنظام والشعب.

أما النصيحة فيذهب الرأيان معا إلى أن مسؤولية استقامة أمر الدولة وسيادة القانون مسؤولية جماعية؛ يعني أنه لا يمكن ترك هذه المسؤولية لأفراد دون غيرهم، وإن تطلبت الظروف العملية تكليف بعض الأفراد أو الجهات كالحاكم (رئيس الدولة) أو أعضاء المجالس التشريعية أو جامعي الضرائب او غيرهم بمهام محددة؛ فإن ذلك لا يعفي الشعب أفرادا ومؤسسات من مسؤولية ضمان استقامة هؤلاء في أداء واجباتهم المكلفين بها وضمان بلوغ الوجهة المنشودة. ولهم أن يحققوا ذلك من خلال مخاطبة السلطات العامة أو النشر في الصحف أو مؤسسات المجتمع المدني وغيرها من السبل والوسائل.

أما النظام – وأعني به نظام الحكم من حيث الإجراءات والتدابير لا من حيث القيم المؤسِّسة أو المقيدة – فالرأيان يذهبان إلى أنه أمر توافقي قابل للمراجعة بحكم الظروف السائدة والأوضاع المحيطة؛ بمعنى أن نظام الحكم والإدارة أمر ينشأ من قبول وإيجاب وأنه إنابة من الشعب لمن يدير شؤونه وفق اتفاق وآلية توافقية ، وأن هذه الآلية يجب أن تخضع للتقويم والمراجعة بموجب النصيحة، شأنها شأن أية اتفاقية أو آلية، فالتوقعات تختلف وتتنامى من وقت لآخر، ولا يمكن الاستمرار في القيام بنفس الدور وبنفس الطريقة مع انتظار أن ذلك سينتج تلقائيا نتائج مختلفة تتوافق مع تغير التوقعات دون أن يكون لتلك التوقعات تأثير مؤسسي يغير الأدوار حسبما يرى الشعب (بكل تعدديته الديموغرافية والفكرية والعرقية واللغوية والدينية والاقتصادية).

أما الأمر الثالث – الشعب (أو الأمة بالتعبير الإسلامي) – فيرى الفكران معا أنهما مصدر السلطات، وهذا الأمر لا يتعارض بالضرورة مع مقولة أن الحاكمية لله، فأمر السلطات مرتبط بالسيادة لا الحاكمية، وهناك أمثلة كثيرة من السنة النبوية والتاريخ الإسلامي على اتساق فكرة أن الشعب هو مصدر السلطات مع حاكمية الله .  وتقتضي مصدرية السلطة من الشعب أنه هو الذي يعين ويعزل ويقرر وينفي ، وأنه إذا برز اختلاف أو تباين بين أفراد الشعب أو الشعب والإدارة فإن الأمر يحال إلى هيئة تحكيمية مختارة من الشعب تستند على الدستور أو النظام الأساسي لتتخذ القرار الفصل، وتقتضي مصدرية السلطة من الشعب تمكين أفراد الشعب من الاطلاع على مجريات الأمور في البلاد وحقائقها بشفافية ووضوح.

ومؤدى هذه الأمور الثلاثة تكريس فكرة أن مسؤولية تنفيذ القانون وضمان الصالح العام تقع على الجميع؛ حتى لا يفقد الفرد اهتمامه بالأمر العام ويصبح أنانيا يسيٌر استيعابه أو مادي النظرة سهلٌ شراؤه أو نفعيا يهتم بمصلحته وشؤونه الشخصية فقط ، وحتى لا تتحول أمور الدولة وشؤونها حكرا على فئة تعمل على تشكيل معالم الدولة وتختزلها في أشخاصها وتختزل قيم المواطنة في الولاء الشخصي لها، وبذا تفقد الدولة أهم مكونات نسيجها الواقي وهي الإنسان الواعي المهتم والولاء للوطن والمشاركة العامة والتقويم المستمر.  ومن هنا فإن المحكوم هو في الحقيقة الحاكم.

 

* باحث مستقل مهتم بالشئون السياسية وحقوق الإنسان والحوار