دولة تلاحم لا تفضل

مما تسعى إليه الدولة المدنية أن يتمتع كل فرد فيها بإنسانيته وحقوقه المرتبطة بها والتي ترقى إلى درجة الضرورات لتستمر الحياة، وبالمثل فإن من متطلبات الدولة المدنية أن تمكّن كل فرد فيها من ممارسة واجباته الوطنية دون وصاية من أحد سوى القانون. وهي دولة تقر بالفروقات الفردية  بين الأشخاص (سواء أكانت في الملكات أو البنية الجسدية أو الموارد المالية أو المستوى التعليمي أو غيرها) لا لتبرر التمييز ضدهم أو تهميشهم أو فرض الوصاية عليهم بل لتعينهم على اجتياز هذه الفروقات والتغلب عليها، وهي بذلك لا تروم أن تجعل الجميع أغنياء أو أن تنزل بهم جميعا إلى حافة الفقر وبالمثل فهي لا تتوقع من الجميع أن يكونوا عباقرة ولا أن يكونوا جميعهم فاشلين دراسيا، فهذا ماليس بالممكن ولا بالطبيعي، ولكنها تسعى إلى ضمان الحد الأدني من العيش الكريم ، وهذا حق أصيل من حقوق الإنسان.

وعندما أتحدث عن العيش الكريم لا أعني فقط توزيع الثروات أو منظومة التأمينات الاجتماعية، ولكني أعني مسارا تقوم من خلاله الدولة على النظرة إلى أفراد المجتمع ومعاملتهم على أنهم سواسية، خاصة مساواتهم في الإحساس بإنسانيتهم وكرامتهم ومواطنتهم دون منية أو شفقة أوتفضل من لدن أحد على أحد، فالكل ملك للدولة والدولة ملك للشعب.  ومن هذا المنطلق ومنطلقات معاضدة يبرز مفهوم العدالة الاجتماعية في إطار جديد: الضرورة؛ فلا يمكننا أن ننظر إليه على أنه مفهوم أوجدته العولمة أو الأنسنة المتأخرة للاقتصاد العالمي وعملياته ، ولا يمكن معاملة هذا المفهوم على أنه ترف أو حملة دعائية وتسويقية؛ فالمسؤولية الاجتماعية متطلب أساسي لبقاء لُحمة المجتمع واستدامة نسيجه الاجتماعي بما يكفل بقاء الدولة والفرص المتاحة.

أحمد بن علي بن محمد المخيني*
أحمد بن علي بن محمد المخيني*

إن من الأهمية بمكان إدراك أن المسوؤلية الاجتماعية صورة من صور التكافل الاجتماعي وتكامل عناصر المجتمع، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن ترتبط الاستفادة من برامج المسؤولية الاجتماعية بوصمة عيب، ولا أن يرتبط توفير برامج المسؤولية الاجتماعية أو القيام عليه بمنة أو إحساس بالتفضل، بل على الجميع أن يدرك أن المسؤولية الاجتماعية ضرورة معيشية وتنظيمية تطلّب الالتفات إليها وتكريسها بعمق وحرص التعاون المجتمعي الذي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونه، وإلا لظل رهين فروقاته الفردية ومحدودية قدراته وموارده.  كما أن هذا الالتفات تطلبته حقيقة تاريخية وهي أن تعميق هذه الفروقات على اختلافها يهدد بقاء المجتمع ذاته ويجعله بتآكل من الداخل ويهوى في لحظة أو عند أول مواجهة مع تحديات ظل يغفلها أو يتغافلها.

وعودا إلى الفروقات، فالإنسان قد يولد بفروقات جسدية أو ذهنية أو تتكون لديه فروقات بسبب ظروفه الثقافية أو الاجتماعية أوالاقتصادية أو السياسية أو غيرها، ومن الظلم أن يبقى الإنسان رهين هذه الفروقات والظروف والملابسات، ومن الظلم ألا تقوم الدولة بمواجهتها والتصدي لها، فإننا إذا ما تركنا الفرد فريسة لمثل هكذا ظروف وفروقات فإننا إنما نكرسها ونورثها ذريته ليصبحوا بذات الفروقات وذات المستقبل، وبذا تصبح لعنة ملازمة له  ولذويه أو حلقة مفرغة يرى من خلالها ظلاما أحدق به من كل الجوانب ويعيق طاقاته أن تتفتق خدمة لوطنه ومجتمعه، ولا يمكن الاتكاء على وطنية الأفراج ما لم ننعشها ونتيح لها فرصة للحياة والتمثل.

إن من مقومات الدولة المدنية أن تعزز مدنية الفرد وإنسانيته وتيسر له تكامله مع أقرانه ونظرائه، وذلك بالعمل مؤسسيا بجد وفي مختلف مراحل حياة الإنسان وفي شتى الأصعدة على تقليل أثر هذه الفروقات على حياة الأفراد سواء من حيث تكون هذه الفروقات أو من حيث تأثيرها على مستقبل الفرد منا.  وهذا لا يتأتى من التقييد والتحييد والتهميش والنظر بعين الشفقة، ولكنه يتأتى بمأسسة نظرة استحقاق هؤلاء لمرافق ومناهج وتسهيلات في شتى مجالات الحياة ، ناهيك عن إدماج هذا الحس في التخطيط التنموي.

إن ما سبق يحتاج إلى إعادة النظر في كيفية صياغة قوانينا وكيف نصمم استراتيجياتنا وسياساتنا وخططنا، فعليها أن تنتقل من الطور الإجرائي التنفيذي أحادي التوجه إلى الطور الحقوقي الشمولي الذي يستهدف الإنسان تنمية وتمكينا ، ليتحول إلى عضو فاعل في مجتمعه مهما كانت الفروق التي تفصل بينه وبين نظيره الإنسان في مجتمعه.

لا مدعاة فيما سبق للوهن والتواكل والاعتماد على الدولة ومواردها أو الاتخام من موائدها، وإنما هي دعوة لأن نكون بشرا مدنيين ، هي دعوة للتلاحم الذي يمسك بيد التائه ويطعم فم الجائع وينطق الأبكم ويبصر الكفيف ويأخذ بيد البطئ ويخفف من عجلة السريع ويحضن المريض ويصون الجاهل ويستمع إلى العاقل بدون منة أو تفضل بل فقط لأنه إنسان.

* باحث مستقل مهتم بالشئون السياسية وحقوق الإنسان والحوار  jicfa@yahoo.com