تحصين العاشق ..!

” ثمة أمر أهم منك ومني ، إنه أنت وأنا “

image

                          – بابلو نيرودا لعشيقته السرية ” ماتيلدي يوروتيا ” –

* * *

ليلى البلوشي

رواية ” الحب في زمن الكوليرا ” حاولت مرارا وأنا ما بين كرّ وفرّ على عتبة هذه الرواية أتوسل قراءتها بشتى صنوف الإغراء ، لكن محاولاتي حظيت بالفشل ، هي الرواية الأولى لماركيز استعص علي التبحر في عوالمها .. لماذا ..؟! هذا ما عجزت عن تفسيره ..!

لكن بالمقابل بدا لي أنه لا فرار من هذه الرواية ؛ لأن القدر قدمه لي في صورة فيلم .. وأيقنت أنها فكرة لا بأس بها ، في أن أتابع فيلما عن رواية لم أقرأ عنها ، رغم ما يشاع عن التلاعب بالأحداث لصالح الفيلم على حساب الرواية نفسها ..

في الفيلم كانت صورة العاشق مؤلمة جدا وهو يحمل على كاهله حب السنين ، لكنه في الختام انتصر لحبه الذي خلده صدقه وإخلاصه الكبيرين ..

فيما كنت أطالع هذا الفيلم ، انبعثت تنهدات عاشق آخر على نحو جارح من رواية ” ثلج الربيع ” ليوكيو ميشيما على لسان بطله ” كيواكي ” وهو يقطر دما حتى آخر رمق فيه لحبيبته ” ساتوكو ” .. هو الكتاب الذي كنت أعكف على قراءته في الفترة عينها ..

لفت نظري عبارة تناهت من لسان والد العاشق .. كان يرددها كثيرا قبل موته .. حين أقر بأن أكثر شيء ندمه في حياته هو عدم موته عاشقا في سبيل الحب ..!

بطل رواية ” الحب في زمن الكوليرا ” انتصر حبه رغم مضي سنوات مديدة فخلّد حبه الذي غدا عجوزا .. وبطل رواية ” ثلج الربيع ” أيضا خلّده الحب ولكن بالموت في سبيله ليدفع  ربيع شبابه ضريبة لذلك ..!

مما لا شك أن الحب ذينك العاشقين هو دليل مفرط على الثمن النفيس الذي سيبذله المحب في سبيل وصم حبه بصمة الخلود دون أن تترك أمامه خيارات شتى .. بل هما خياران وإن تكللا بثالث .. فالمعنى لا يغدو في أن يحمل في صميمه إحدى الخيارين الأساسيين في كهنوت الحب الخالد .. وهما بمعناهما العميق والكبير : ” الموت والحياة ” وجهين متضادين، متنافرين، متناقضين على نحو مرير وقاطع ..

ولأن الحب هو بذاته المعني بالحديث المسهب في هذه المقالة ، فإنه من الكبرياء والدلال والغرور وفرط الاحساس من أن يمنح خلوده لأي عابر فضولي أو شحاذ رغبة .. !

وتلك التوصية المحبة التي يمنحها الحب لكل عاشقين حديثي العهد ، غضي المشاعر ،  لم تتكابد عليهما مشقة الممنوحة من سيدة القلوب ، لا يعدو في كونه سوى رباطا على فناء ما يدعى بخلود الحب ؛ لأن الخلود في الحب لا سبيل إليه سوى لعاشقين كان القدر لهما بالمرصاد بكافة ويلات الخنوع والفراق ودرب مسدود وخيارات ضيقة .. فإما الموت في بهجة العمر بغصة حب شنق سلفا .. وإما المجاهدة المريرة عبر سنوات عديدة في سبيل شيء اسمه الحب ..

الحب .. لا يمنح خلوده سوى لمستحقيه ولهذا كانت أسطورة روميو وجوليت .. ابن الملوح والعامرية .. ما يزالان يتأججان إثارة في ذاكرة التاريخ ، حتى تساءل الكثيرين عن مدى واقع وجود هذه الشخصيات في حقيقة العالم ..!

تلك هي الصورة الأولى للخلود في أذهان الكثيرين ولطالما تواردت أفكار ووجهات وفلسفات عنها لكن ما أريد الوصول إليه هنا هو “تحصين العاشقين ” ..

الحب الذي ينأى بنفسه عن وصال المحبين فتتعاكف عليه الأعوام وهو ما يزال في مضجعه ؛ لأن القدر لم يأذن له أن يلم أطراف تلك القلوب المكسورة وهي مهشمة في شظايا البعد واللوعة والفراق ..

ويمكن القول أن شخصية الآنسة ” ساييكي ” في رواية الياباني هاروكي موراكامي ” كافكا على الشاطئ ” تجسيد حقيقي لفلسفة ” تحصين العاشق ” فهذه المرأة التي تعدت الخمسين جسديا في روحها تتحرك فتاة ذات الخمسة عشر ربيعا .. تلك الفتاة التي أحبت رجلا في ذاك السن وحينما رحل عنها ميتا .. بقيت ذكراه حية .. قوية جدا وغائرة لدرجة أن الفتاة الخامسة عشر لم تغادرها رغم العقود التي مرت ..!

وماذا عن حكاية الحب الصاخبة التي تواثقت بين ” هنري ميللر ” و” أناييس نن ” كانت علاقتهما قوية واستثنائية ، في إحدى الرسائل يعترف قلب ميللر قائلا لها : ” أناييس ، ليتك تكونين معي على مدى أربع وعشرين ساعة، تراقبين كل إيماءاتي، تأكلين معي، تعملين معي، هذه الأمور لا يمكن أنْ تحدث. عندما أكون بعيداً عنك أفكر فيك باستمرار، فذلك يُلوِّن كل ما أقول وأفعل. ليتكِ تعرفين كم أنا مُخلص لك! ليس فقط جسدياً، بل وعقلياً، وأخلاقياً، وروحياً. لا شيء يُغويني هنا، لا شيء على الإطلاق. إنني منيع ضد نيويورك، وضد أصدقائي القُدامى، وضد الماضي، ضد كل شيء. للمرة الأولى في حياتي أنا منغمس تماماً في كائن آخر، فيك. في استطاعتي أنْ أتخلّى عن كل شيء من دون أنْ أخشى الإرهاق أو الضياع ..”

مشاعر الحب الحقيقية تعني التورط والالتزام ، كما أثبت الفيلسوف ” أوشو ” مبديا نظريته  : ” المشاعر الحقيقية تعني التورط والالتزام ، إنها تعني تفهم وتحسس مشاعر الآخر وليس التعاطف معه ؛ إنها أفعال ، عندما تشعر بشيء حقيقي في قلبك ، يحولك هذا الشعور فجأة ويصبح فعلا ، هذا هو المقياس ، مشاعرك تصبح أفعالا ، وإذا بقي شعورك شعورا ولم يصبح فعلا ، يجب أن تدرك أنه شعور مزيف ، وهكذا فأنت تخدع نفسك أو تخادع الآخرين ..”

يتبدى لنا هنا ملمح عميق ، هاجس هذياني لا نجسه سوى في قلب خلقه الله للإخلاص ولا شيء غير ذلك ..

هذا الإخلاص بعينه هو ما يدفع حامله إلى تحصين نفسه عن قلوب الآخرين .. عن وصالهم .. عن السماح لأي كائن كان أن يدنو من صومعته ؛ لأن أدنى مخالفة لمسمى الإخلاص يعني الخيانة بالمعنى الدقيق والكلي ..

خيانة المحب .. الطرف الأهم في صفقة الإخلاص الأبدي .. ذاك الهتك المستعصي سيجد نفسه محاطا بصيانة العاشق ..

حب الآخر يصونه عن حب الآخرين .. حب الآخر يشمع قلبه بلاصق قوي .. يجعله يرفع شعار ” أنا لست لي ” ..

لأن ذاك المكان بكل سعة من سويعاته الممتدة وكل شاغر من شواغره الفضفاضة هو ملك للآخر العاشق الغائب الحاضر.. وهو لا ولن يكون إلا بأحقية وثيقة ” تحصين العاشق ” ..

في زمن لا يؤمن سوى بـ ” أناه ” ؛ فكم من عاشق يقول للآخر البعيد القريب : يا أنا ..؟!

يحكى أن ” جان كوكتو ” عشق المطربة الفرنسية الشهيرة ” أديث بياف ” ويحدث أن حاورا مرة عن أسبقية أحدهما إلى الموت قبل الآخر وأصرّ كل واحد منهما أنه هو السباق إلى الفناء الأبدي ولكن القدر أخذ ” أديث بياف ” .. وكان ” جان كوكتو ” قد اعترف قبل موتها : ” إذا ماتت أديث بياف فسوف يموت نصفي ، بل ثلاثة أرباعي ، بل أنا جزء منها ، وموتها موت لي “

وبعد موتها خابر حديث تليفوني من إذاعة باريس الأديب كوكتو يطلبون إليه أن يقول كلمة عن صديقة عمره .. فوعدهم كوكتو .. ولما ذهبوا إليه وجدوه قد مات ..!