إشكاليات المناظرات الدينية


قراءة عابرة في لقاء الجُمعة

ثمة الكثير من المفاهيم تُستخدم في العالمين العربي و الإسلامي بمعانٍ لا تتناسب مع الوضع الحاضر الذي يستوجب الكثير من التغييرات المفاهيمية و النظرية التي لم تحدث لدينا بعد ، وربما الحوار الذي درا بين المفتي العام لسلطنة عُمان مع المذيع عبدالله المديفر يكشف عن الكثير من التصورات الحالية و المسُتخدمة تلك التي لا تنتمي للأفق العالمي الحديث.

يثير هذا اللقاء الكثير من التساؤلات المختلفة ، غير ان هذه الورقة ستناقش المفهوم الثاوي للمناظرة في عقول و تصورات الفقهاء ، الذين يمثلون الصوت الشعبي الأكبر في العالمين ” العربي و الإسلامي”. من ضمن الأسئلة التي تود هذه الورقة مناقشتها هي :  ماذا يعني ان تكون هناك منُاظرة بين طرفين يعتقدان بان احدهما يمتلك الحق دون الآخر ؟ ثم ما هي نتائج هذه المناظرة على الأتباع الذين يتبعون المعتقدات التي يتناظرون حولها ؟ و أين إمكانية حرية الاختيار في السياق ؟ و أخيرا ً لمَ المناظرة ؟

المُناظرة و الصواب

تفترض فكرة المنُاظرة وجود جانبين يتحاوران حول موضوع معُين يتم على أثرها قبول احدهما برأي الآخر ، او كما جاء في ” كليات ابي البقاء ، ت 1094هـ” فهي تعني ” النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا ً للصواب ، وقد يكون مع نفسه” ص716. انها بهذا المعنى تختلف عن المجادلة و المكابرة و المغالطة و المناقضة و المعارضة ، وهي فنون قولية وايتقية أصبحت حاضرة في أفقنا الأنطولوجي الحالي بكثافة لم يسبق لها مثيل مع غياب الفن الاول. لفهم السؤال الأول و لمعرفة ابعاده فإننا امام تاريخ طويل ، ومُعقّد ، من التصورات الفلسفية و الدينية و الاجتماعية للحقيقة و كيف تم و يتم التوصل إليها و كيف تمت صياغتها ، كما يقودنا السؤال الاول أيضا ً الى ما جاء في التعريف السابق من حيث انها (المناظرة) تهدف الى “إظهار الصواب ” ، حيث يفترض التعريف إستعاريا ً بأن الصواب جاهزا ً و منُجزا ً هناك ، بإنتظارنا ، يستوجب الإظهار من الخفاء الى العَلن عن طريق هذه المنُاظرة ، الامر الذي يعني بأننا امام مفهوم مفارق لزمانيتنا التي للحقيقة او الصواب برؤى مختلفة من جهة ، مما يعني بأن الحقيقة هنا او الصواب حسب تعبير ابي البقاء يتم توارثه من جيل لآخر و تقبله كما هو و ذلك حسب المصادر الموثوقة التي تأتي منه ، اذ تقتصر مهمتنا معه هي الإظهار فقط ، و ليس إنتاجه كما تقتضي اوضاعنا المعرفية الحالية.

المتلقي بين الاستقلالية و التبعية :

من الممكن فهم هذه المناظرة حينما تقوم بين جانبين او بمعنى أصح شخصين يمُثلان رأييهما الشخصي الخاص ، غير ان التساؤل يمتد و يتسع حينما يتعلق الأمر بين جانبين يمثلان إمتدادا ً تاريخيا ً و سكانيا ً عميقا ً ، مليئا ً بالتوترات و الصراعات ، التي من المؤمل ان تنتهي لا أن تتواصل تحت عناوين عصرية فضفاضة ، غير انه و كما هو معلوم بأن الفقهاء لدينا اكتسبوا لأسباب تاريخية كثيرة الكثير من الأتباع بمستويات ٍ مختلفة و أنماط فكرية متزايدة ، الامر الذي يجعل سيناريو المناظرة هنا لا يقتصر عليهما فقط ، فهما في هذه الحالة لا يعبّران عن الرأي الشخصي لكليهما ، بل هما ينطقان بذلك باسم المجموعات التي تعتنق ذات المبادئ ، و تنتمي من الناحية الروحية لذات الأفق ، وحديثهما هنا سيكون شبه مُلزم شأنه في ذلك شأن الفتاوى ، التي تتزايد بشكل ٍ يومي. ففي الحالتين (المناظرة و الفتاوى) يسعيان للتأصيل ، تأصيل أفكارهما بناء ً على الإمكانيات النصية التي يمتلكانها ، و التي هي بلا شك إمكانيات ٍ عالية نتيجة طبيعية جدا ً لسنوات الخبرة و الدرَبة في المجال الفقهي.

حينما تقوم شخصيتين فقهيتين بارزتين بهذه المنُاظرة – ان تم القيام بها – فإنها و بشكل ٍ لاشعوري لا تقتصر عليهما ، فهي تمتد الى المتلقي ، الذي يبحث عن الكثير من المشروعية السلوكية من خلال ما يصدر عنهما من توجيهات ٍ و تحديدات.

في هذه الحالة يختفي لدينا مفهوم المتلقي الحُر ، الذي يفترض انه يمتلك كل الصلاحيات في اختيار اعتقاداته و إيمانه ، و ممارسة سلوكياته بكل حرية ، وعدم تخندقه الصريح او الضمني ، مع طرف ٍ ضد الطرف الآخر ،  فهو و الحالة هذه مُلزم لا شعوريا ً من جهة و اجتماعيا ً من جهة ثانية و غرائزيا ً من جهة ثالثة بإتباع نتائج هذه المناظرة. يتجلى هذا التخندق في تلك الضمائر و الألفاظ المتداولة و التي تُشعرنا بأننا أمام معركة ينبغي ان تُحشد لها الكثير من الإمكانيات اللوجستية للانتصار و التغلّب على الجانب الآخر ، و لسنا أمام فعل قولي ينبغي ان يتصف بالحرية في النقاش و التفكير.

لمَ المُناظرة ؟

جرت العادة ان تحدث المناظرات بين الأشخاص ، خارج المجال الفقهي ، بل هي تحدث – ان حدثت طبعا ً – بين الشعراء و الفلاسفة في التاريخ العربي القديم ، ذلك ان المجال الفقهي ممهورا بالدم و مختوما ً بالعنف و القتال ، في حين ان المجالات الأخرى ، هي مجالات أكثر رحابة  وأكثر اتساعا ً للحرية الشخصية و ان كانت تتلقى الكثير من الدعم الرمزي و المادي من أطراف ٍ دون أخرى ، ذلك ان المجال الفقهي كما هو معروف يتصل بوهم النصوص المقدسة الملُزمة للأتباع.

و لكن لمَ المنُاظرة بهذا المعنى السابق ؟ لماذا يتم تجاهل تلك العقود الدموية و المأساوية من التاريخ العربي و الإسلامي ؟ و لمَ يتم القفز فوق الإنسان او العودة به الى عصور سحيقة موغلة في المرارة و الهوان ، و جعله عبدا ً لا يمتلك حريته و إرادته ، بل عليه ان يتبّع غيره؟ بمعنى آخر ؛ لمَ هذه الرغبة الجامحة في تصويره أمام نفسه وغيره بأنه يعاني من قصور ذاتي لا يمتلك القدرة على تقرير مصيره ؟

ثمة روائح تفوح من رغبة المناظرات الفقهية هذه ، وهي رغبة القطعنة ، قطعنة اكبر عدد ٍ ممكن من الأفراد الذين اكتسبوا بصعوبة بالغة جدا ً ، حريتهم الفكرية و مسؤوليتهم تجاه اختياراتهم ، ذلك ان الفرد و بحكم العامل الديمغرافي و التاريخي لا يستطيع الافلات من هذه القطعنة و استقلاله بنفسه ، فهو محكوم بالكثير من المحددات و القيود.

خاتمة :

للمناظرات أهمية كبرى في الحياة المعُاصرة ، فهي مستمرة في العالم الغربي بشكل ٍ متواصل ، وفي الكثير من المجالات : الدينية و الفلسفية و الاجتماعية و الاقتصادية و غيرها ،  ولكنها ليست بالشروط التي تُمارس في العالمين العربي و الإسلامي ، فمن أهم هذه الشروط المفقودة لتحقيق أهدافها و غاياتها ، بأن يكون المتلقي حُرا ً في اختياراته ، قادرا ً على رفض او قبول ما يدور فيها ، و ليس كما تفترضه مناظرة الفقهاء بأن المتلقي تابع للفقيه و آرائه شبه ملزمة.

كما تفترض المناظرة ألا يكون المتناظرين أصحاب سلطة على المتلقي ، وذلك لضمان حريته و قدرته على الاختيار ، فالمتلقي ينبغي ان يكون على مسافة متساوية من الطرفين ، وألا ينتمي لأحدهما لكي يستطيع الاستقلال برأيه , و ربما معارضتهما و تفنيدهما بل واستخدام الفنون القولية السابقة الذكر إن اقتضى الأمر.

علي سليمان الرواحي