الاستبداد .. مظاهره ومواجهته

 صدر قبل أيام كتاب الاستبداد؛ مظاهره ومواجهته، لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، وهو كتاب هام جدا، غير أن أهميته لا تكمن في عمقه المعرفي، بقدر ما تكمن في مزامنته لأحداث ما يسمى بـ ” الربيع العربي”  وسياقاته الموضوعية. الكتاب يأتي في مرحلة هامة يشهد فيها العالم العربي فقدان توازناته الأمنية، مما أدى إلى سقوط أنظمة سياسية عاتية. كما يأتي الكتاب والعقل الاجتماعي العربي يكفر بكل النظريات السياسية التي قدّمتها الحكومات العربية أمنيا وسياسيا منذ منتصف القرن العشرين.

إضافة إلى ذلك؛ فإن أهمية الكتاب تكمن في إعلان مؤلفه في مقدمة كتابه عن تقديمه ما يمكننا تجاوزا تسميته بالنظرية السياسية عند الإباضية في مواجهة الاستبداد؛ أي شرعنة الثورة على الاستبداد السياسي، وذلك بالعودة إلى التأريخ الإباضي، وهو بهذا يريد كشف حقيقة التأريخ السياسي الإباضي للمرجعيات الدينية في العالم الإسلامي وللضمير الجمعي كذلك، مبينا أن أحداث الربيع العربي اليوم إنما تستمد تأريخيتها من السلوك الإباضي، الذي قام – بحسب رؤية المؤلف- في القرن الأول والثاني الهجري ضد استبداد الدولتين الأموية والعباسية، والذي بسببه تم إقصاء الإباضية عن مسرح التأريخ الإسلامي المعتدل، وتم نعتهم بالخوارج المتطرفة . وبناء على ذلك؛ فإن المؤلف يدعو من خلال هذا الكتاب المرجعيات الدينية في العالم اليوم إلى مراجعات عديدة لتأريخها السياسي- الديني، كما يدعوها إلى إعادة قراءة التراث السياسي للإباضية، إضافة إلى إعادة النظر في كل النظريات السياسية التي قدّمها التراث الإسلامي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

    لا بد أن نشير إلى أن  عمان شهدت في السنوات العشر الأخيرة تشكلات ثقافية متعددة تنتمي إلى تيارات فكرية مختلفة، استطاعت أن تسجل رؤيتها الخاصة لأحداث الربيع العربي في كتابات ومؤلفات صدرت متزامنة مع أحداث الربيع العربي، إلا أن تلك المؤلفات لا يمكن أن ترتقي أهميتها لمثل هذا الكتاب، نظرا لأن هذا الكتاب يمثل مدرسة تأريخية لها مبادئها وتقاليدها وثقافتها الخاصة، ولذلك آثرت قراءة هذا الكتاب كونه يؤسس فكرا ثوريا، أو بالأحرى يعيد إنتاج نظريات الثورة التي عرفها الإباضية؛ نظريات تقوم على النصوص المقدسة، وتستمد قوتها من التأريخ الإباضي البعيد والقريب. فالمؤلف يسعى في هذا الكتاب إلى تكريس فكر الثورة، كما يسعى إلى شرعنتها دينيا وشرعنة الخروج على الأنظمة السياسية المستبدة كما فعل مؤسسو المدرسة الإباضية سابقا ضد الأمويين والعباسيين، وربما تعود الجذور التأريخية إلى السياسة المالية والاجتماعية للخليفة الثالث عثمان بن عفان.

    لا ننسى أيضا أن أهمية الكتاب تكمن في شخص مؤلفه، فهو المرجع الأول في التأريخ الإباضي الحديث، إذ استطاع أن يهيمن على المشهد الإباضي قرابة نصف قرن، وبالتالي تمكن إلى حد كبير من صياغة بنية التفكير في العقل الجمعي العماني، كما تمكن خطابه من الهيمنة الفكرية على الضمير الجمعي في عمان بشكل خاص والإباضية بشكل عام، ولن نبالغ إذا قلنا إن سماحته يمثل ظاهرة دينية في التأريخ الديني العماني الحديث؛ بفضل ما يمتلكه الرجل من قدرات علمية في مجال التراث الإسلامي التقليدي بكل فروعه، جعلت منه قادرا على فرض أفكاره في العقل الجمعي العماني بلغة بيانية لم يتعود عليها العمانيون في تأريخهم إلا نادرا.

   وبالرغم من كثرة مؤلفات سماحته، إلا أن كتاب الاستبداد الذي بين أيدينا مختلف نوعا ما عن بقية نتاجات سماحته في مجال التأليف، فهو يصطبغ نوعا ما بالصبغة التأليفية المنهجية بخلاف مؤلفاته الأخرى التي تتسم بالخطاب الوعظي الإرشادي أكثر منها بالخطاب المعرفي العميق بما فيها كتاب الحق الدامغ (في علم الكلام) الذي كتب بعين فقيه لا بعين متكلم، ونستثني من ذلك كتاب التفسير، إذ له منهجيته الخاصة في التأليف، وكتاب البرهان الحق (في علم الكلام) الذي اطلعت على أجزائه الأولى لكنه لم يطبع إلى الآن. ويبدو أن كتاب الاستبداد يمثل قيمة معرفية وتأريخية هامة للمدرسة الإباضية اليوم، ولشخص المؤلف ذاته أيضا، وذلك يظهر من أسماء العلماء والباحثين الذين قاموا بمراجعة الكتاب، كما يظهر أيضا في بعده الاجتماعي؛ إذ قامت بطباعة الكتاب على نفقتها الخاصة شخصية اجتماعية معروفة في عمان، مما يؤذن بانسجام اجتماعي- ديني أعطى الكتاب دلالات إضافية.

  لا يمكن قراءة هذا الكتاب بمعزل عن قراءة الخطاب الديني الإباضي بشكل عام، والخطاب الديني الخليلي بشكل خاص، خاصة علاقة الدولة بالدين، أو علاقة الديني بالسياسي، فالكتاب يقدّم التأريخ السياسي للمدرسة الإباضية، كما أنه يشكل أيضا جزءا من الخطاب الديني للمدرسة الخليلية (نسبة إلى المؤلف). غير أن الخطاب الديني الذي أنتجته المدرسة الخليلية بكل مفاهيمه ونظرياته ما يزال إلى الآن بعيدا عن الدراسات النقدية والتفكيكية الجريئة والجادة، منذ أن تم تعيينه مفتيا عاما للسلطنة عام 1975 وإلى اليوم، فكل الدراسات التي قدّمت عن هذه الشخصية هي دراسات فقيرة معرفيا، وخجولة في كثير من الأحيان، أو يغلب عليها لغة المجاملة، وذلك يعود إلى المكانة الاجتماعية والسياسية الكبيرة التي تحضى بها هذه الشخصية؛ مما شكل حاجزا أشبه بالمقدس عن دراسة كل ما أنتجته هذه الشخصية معرفيا وخطابيا.

   إن الخوف من دراسة مفردات الخطاب الديني للمدرسة الخليلية يعود إلى الإرتباك المفاهيمي والمنهجي لمفهوم النقد في العقل الديني خاصة والاجتماعي بشكل عام؛ إذ أن مفهوم الدراسات النقدية ما زالت تحمل تصورات خاطئة معرفيا، فالنقد ما زال مرتبطا في دلالاته بأدبيات التراث العربي، ولم تستطع المؤسسات العلمية في الحقل الديني أن تقدم مفهوم النقد بصورة مختلفة عن تلك الصورة الكلاسيكية المعهودة، فالنقد في الدراسات الحديثة يعني حراك الأفكار بطريقة ما، ووضعها تحت مختبر العقل المؤسساتي العلمي القائم على المؤسسة.

إن مفهوم النقد لا يهتم كثيرا في الدراسات الحديثة بثنائية الخطأ والصواب، فضلا عن ثنائية الحلال والحرام عند تحليله لعناصر الخطاب الفكري بقدر ما يهتم بدفع الأفكار نحو مزيد من التفكيك وإعادة البناء. والسبب الآخر الذي يكمن وراء ضعف الدراسات التي قدمت عن هذه الشخصية يعود إلى افتقار المؤسسات العلمية في عمان إلى باحثين جادين في المعرفة الحديثة، فالمؤسسات العلمية معنا لم تستطع أن تقدم أقلاما معرفية لا محليا ولا إقليميا إلى الآن، كما أنها لم تستطع أن تقدم باحثين جادين في تحليل عناصر الخطاب الديني؛ أفكاره ونظرياته، مساراته واتجاهاته بعيدا عن الدراسات الفقهية التقليدية المعروفة. فالفقه جزء من مكونات التفكير الاجتماعي التي لا غنى للمجتمعات الدينية عنه، كما أنه يسهم في تغذية مناطق التفكير الجمعي بمحطات تأريخية هامة في واقعها اليومي.

   قسّم المؤلف الكتاب إلى قسمين؛ مظاهر الاستبداد وطرائق مواجهته، وقد استعرض في القسم الأول تأريخ الإسلام السياسي، واصفا إياه بما وصفه به أبو الأعلى المودوي بأنه حكم الجاهلية، الذي” يستلهم عسف الفراعنة وجور الأكاسرة وبطش القياصرة”؛ ولذلك عمد المؤلف إلى تفكيك منظومة الإسلام السياسي التأريخي، القائمة على الاستبداد، خاصة الإسلام السياسي الأموي والعباسي، كونها إسلامات تأسست في منظومتها السياسية – بحسب المؤلف – على الظلم والاستبداد والطغيان، وفشا فيها توريث الملك والاهتمام بالدنيا، وافتقدت تلك الأنظمة أهم سمة من سمات تحقيق العدالة وهي التقوى. كما قام المؤلف بتفكيك نماذج متعددة من الفتاوى الدينية التي لعبت دورا كبيرا في توظيف الدين سياسيا، وذلك من أجل إضفاء الشرعية الدينية على أفعال السلطة السياسية، إذ عملت تلك الفتاوى على تحريم الثورة على الحكام، وانتشرت في تلك المرحلة نظرية القدر ليتم من خلالها إسناد همجية المقدور التي يقوم بها الاستبداد إلى الله. وقد قام المؤلف في هذا القسم بعمل معرفي عميق في تحليل النظريات الدينية الكلاسيكية أو تلك الفتاوى التأريخية التي وظفتها سلطة الاستبداد السياسي في سبيل القضاء على أي ثورة تقوم بها العامة ضد أنظمة الحكم المختلفة.

   المؤلف وهو يتحدث عن شرعنة الثورة في هذا القسم، قدّم في بداية الكتاب نصوصا تأريخية لأهم منظري الحركة الإخوانية في العالم الإسلامي، ويبدو أن علاقة فكر المدرسة الخليلية بالفكر الإخواني تحتاج إلى مزيد من التحليل؛ كون المدرسة الإباضية اليوم ومن خلال خطاباتها المعرفية تعتبر أن الفكر السياسي للإخوان يشكل مقاربة معرفية بفكر الإباضية الأوائل؛ لا أعني بالطبع الانتماء الحركي إلى الإخوان أو انتماء الإخوان إلى المدرسة الإباضية، وإنما التأثير الذي تركته الحركة الإخوانية في الخطاب الإباضي المعاصر، خاصة في سبعينات القرن المنصرم، ونحن نعلم أن رواد المدرسة الإباضية في المغرب العربي اختلطوا كثيرا بالإخوان في منتصف القرن الماضي كعمرو خليفة النامي وأبي إسحاق إبراهيم اطفيش وغيرهم، بل ربما تأثر سماحته بنفسه بخطابات الزعامات الروحية للإخوان كمحمد الغزالي مثلا، فضلا عن تأثره بالامتدادات المعرفية الأولى لهؤلاء كرشيد رضا وشيخه محمد عبده، ولهذا فليس غريبا أن نجد المؤلف يقدم نصوصا طويلة في بداية هذا الكتاب لمؤسسي حركة الإخوان المنتمين عقائديا إلى المذهب الأشعري كحسن البنا وسيد قطب، أو مؤسسي الحركات الإسلامية في الباكستان والهند كأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي؛ لأن الكتاب قُدِّمَ بشكل كبير إلى المرجعيات الدينية الداعمة للحركات الثورية في مصر وسوريا وليبيا وتونس وغيرها والتي تعتبر كبرى مرجعيات المذهب الأشعري اليوم. ولا يخفى أن الاعتماد على هذه النصوص التأسيسية للإخوان جاء أيضا في سياق ” التناص التأريخي”، من أجل إشراك المتلقي في فهومات فكرية واحدة وإن تباينت دوائرهما التأريخية، إذ ليس الإباضية وحدهم من انتقد التأريخ السياسي للإسلام السائد وإنما هناك مرجعيات أخرى لا تدين بالإباضية قامت بذلك.

  إن مبادئ الفكر الثوري الإخواني موجودة ذاتها في الفكر الإباضي الثوري، التي تسمى عند الإباضية بمسالك الدين، ونسبتها إلى الدين يعني مقاربتها موضوعيا بمسائل التوحيد. ولذلك نجد أن الفكر الثوري لكلا الطرفين يشترك في بعض المواقف التأريخية كنظرتهم إلى سياسة عثمان بن عفان في العدالة الاجتماعية والمالية، والدول المتعاقبة على الحكم بعد ذلك، والكتاب بطبيعة الحال يقدّم فكر الثورة الإباضية الأولى في مواجهة الاستبداد، التي هي أشبة – بحسب المؤلف- بفكر الحركات الإسلامية اليوم ضد الاستبداد مع اختلاف بسيط في الإشكالات المتعلقة بشرعنة الثورة وأحكامها.

  القسم الثاني من هذا الكتاب ليس سوى محاولة المؤلف استعراض الفكر السياسي الإباضي مفاهيميا ونظرياتيا وتطبيقا تأريخيا من أجل مواجهة الاستبداد السياسي التأريخي، مستعرضا بداية الثورات التأريخية التي قام بها الإباضية في القرن الأول والثاني الهجري في البصرة واليمن والحجاز، واصفا إياها بأنها ” حركات تصحيحية”، ومن ثم استعرض المؤلف نماذج الحكم الإباضي في عمان بداية من القرن الثاني الهجري وإلى القرن الرابع عشر الهجري، ذلك الحكم الذي حقق – بحسب المؤلف – مفهوم العدالة الاجتماعية. ولم يكتف المؤلف بذلك؛ وإنما عمد إلى مقارنات تأريخية مع المدرسة الوهابية؛ الخصم التأريخي الذي يجب الحذر منه بلغة المؤلف وفكره، وهذا النوع من الصراعات الدينية تجده جليا في معظم الخطاب الديني المعاصر، خاصة الإسلام الوهابي، مما أفرز ذلك صراعات دموية بين الإسلامات المتباينة في العالم العربي، وارتبطت تلك المشاهد كثيرا بأحداث ما بعد الرييع العربي. ولهذا فإن القارئ يلحظ في هذا الكتاب إغراقا ماضويا في تحليل مفهومي الاستبداد (الأخر السياسي) والعدل (الذات السياسية)، فالمؤلف بهذا التحليل المعرفي جعل ذاته مغلقة من إطارها التأريخي، كما أنه لم يسع إلى زحزحة مفهومي العدل والاستبداد بعيدا عن تأريخيتهما، فالمؤلف ما زال يقرأ التأريخ بتجلياته المختلفة بثنائية الذات (العدل) والآخر (الاستبداد).

  غير أن المتأمل بعمق إلى الكتاب يلحظ أن هذين القسمين لا يشكلان سوى نصف الكتاب فقط، وقد تم تجاهل أو تغييب النصف الآخر من الكتاب، فلا يمكن منهجيا ومعرفيا ربط الكتاب في مقدمته وخاتمته بأحداث الربيع العربي دون أن يقدم المؤلف فصلا مستقلا عن التحولات السياسية والاجتماعية التي رافقت ما يعرف اصطلاحيا بالربيع العربي؛ لأن من شأن ذلك أن يشكل خللا في القراءة التأريخية للنظرية السياسية. إن محاولة إسقاط التأريخ الثوري للإباضية باعتباره يمثل العدل في الأحداث السياسية الراهنة دون قراءة مكونات الاجتماع- السياسي أدى إلى إحداث قطيعة معرفية لدى المتلقي بين التأريخ الديني وتأريخ الاجتماع- السياسي الحديث، فما علاقة التأريخ الديني للإباضية بالربيع العربي ؟!

   إن المقاربة المفاهيمية لمصطلحي العدل والاستبداد لا تكفي لفهم الارتباط المعرفي بين فكر الثورة عند الإباضية وأحداث الربيع العربي؛ لأن الدلالات السياسية التي يحملها مفهوم الاستبداد في العقل السياسي العربي اليوم وكذلك في العقل الاجتماعي تجاوزت بمراحل كبيرة تلك الدلالات السياسية للتراث الديني بشكل عام والإباضي بشكل خاص. إضافة إلى ذلك؛ فإن المؤلف بإسقاطه دراسة التحولات السياسية الراهنة قام بإحداث قطيعة تأريخية أيضا وليست معرفية فقط، وكأنّ كافة التحولات السياسية التي مر بها العقل الإسلامي طوال أربعة عشر قرنا تتسم بالوحدة الزمانية المغلقة والناجزة، وهي من القراءات التسطيحية للتأريخ السياسي العربي والإسلامي؛ فالثورات الدينية موغلة في تراث الإسلام السياسي السائد، فهناك دول كثيرة قامت في التأريخ الإسلامي، ما الربيع العربي إلا امتداد لذلك التراث الإنساني قبل أم يكون دينيا أو مذهبيا. إن إحداث قطيعة تأريخية في “الزمان الموضوعي” تعتبر من المغالطات التأريخية التي لا ينتبه إليها الفقهاء غالبا، ولذلك رأى المؤلف أن التراث السياسي الإسلامي السائد ” انقلبت معاييره رأسا على عقب بعد انطواء حقبة الخلافة الراشدة، وتحول الحكم في الإسلام إلى نظام كسروي قيصري”، فالإسلام الذي أتى نورا للبشرية انحرف أتباعه مباشرة بعد سنوات معدودات، وهو إشكال تعرض له المستشرقون كثيرا وذلك بنسفهم فكرة الواقعية عن الإسلام. وهي نقطة هامة في نظري؛ لأن المؤلف لم يقرأ في تأريخ الإباضية كاملا سوى ” العدل”، كما أنه لم يستطع أن يقرأ في تأريخ الإسلام السياسي السائد سوى ” الاستبداد”، وهو بهذا أغلق الوجه الآخر لكلا الطرفين؛ بل عمل على إغلاق مفهوم (العدل) في دلالته الدينية المرتبطة بالتقوى، وإغلاق مفهوم (الاستبداد) في دلالته الدينية المرتبطة بالظلم، وهو بهذا يقوم بعملية إغلاق المعنى في اللفظ أو إغلاق اللفظ بمعنى تأريخي ضيق دون تفكيك المفهوم ذاته من زواياه المختلفة، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه بالانسداد التأريخي للمفاهيم الدينية؛ إذ يبقى المفهوم مغلقا في دلالته التراثية القديمة، بعيدا عن تطور الإنسان والمعرفة. كل ذلك مرده إلى طرائق التفكير ومناهجه، فالمؤلف لا يمكنه تصور مفهوم العدل إلا في صفة التقوى الخالية من المعصية الدينية ذات الفهم المذهبي الضيق، التي يتسم بها الإمام أو الخليفة، فالتقوى – بحسب المؤلف – هي أساس العدل ومنتهاه، بينما تقوم الدولة الحديثة بتكريس فكرة المدنية بتشريعاتها ومؤسساتها كمفهوم عصري يسعى إلى تحقيق العدل، ولهذا ساق المؤلف النماذج التأريخية كتطبيقات حية لمفهوم العدل عند الإباضية.

  إن الاشتغال بتفكيك المفاهيم الدينية عمل كبير، ويحتاج إلى دراسات مستقلة بذاتها، غير أن المتأمل في هذه المفاهيم التي يستخدمها العقل الديني يلحظ بأنها غير قادرة على مزامنة العقل المعرفي في العلوم الإنسانية الحديثة، أو بعبارة أكثر دقة إنها لا تستطيع استيعاب التحولات الإنسانية في المعرفة الحديثة، فمفهوم العلم مثلا في التراث الديني مرتبط بالتقوى (بدلالته الدينية) وليس بـ ” أخلاقيات المعرفة” وفق التشريعات المدنية الحديثة، مع أن العالم الإسلامي هو من أكثر البلدان تخلفا في جانبه المعرفي، وقد كانت الإمامة إلى عهد قريب غير قادرة على النظر في ملفات أخرى مرتبطة بالإنسان. أتصور شخصيا أن ذلك يعود إلى الإشكال المتعلق بالنظرية السببية عند المتكلمين، وقد قُدّمَتْ هذه النظرية في التراث الكلامي بصورة عميقة جدا لكنها هزلت معرفيا في القرون المتأخرة، وهكذا بالنسبة لكثير من المفاهيم الأخرى التي تحتاج إلى إعادة تفكيك على ضوء علم الكلام أولا ومن ثم التطور المعرفي للإنسان اليوم. لا يمكن للمؤلف من خلال منظومته الفكرية والعقدية أن يعطي مفهوم (العدل) سياقات ومساقات مختلفة مرتبطة أكثر ببناء الدولة الحديثة، وملفاتها الكبرى تطويرا وتنظيما من أجل تحقيق مفهوم العدالة السياسية والإنسانية قبل ذلك، فالعدالة ليست حكما قضائيا يكون الإمام أو الخليفة طرفا فيه، وإنما الاهتمام بمشكلات الإنسان الكبرى كملف الأمن، والتعليم والصحة والمواطنة وغيرها. وعلى كل حال، فإن محاكمة بنية المفاهيم الواردة في كتاب الاستبداد لا يمكن أن يستوعبه هذا المقال ذو المشروطية المحددة بمساحة معينة للنشر، ولذلك سأتحدث عن الإشكال المفاهيمي في الخطاب الديني المعاصر بشيء من التفصيل في دراسة مستقلة أقوم بها الآن.

  القسم الأخر الذي لم يعره المؤلف اهتماما يتمثل في فقدان الكتاب لنظرية سياسية بديلة تقدمها المدرسة الإباضية في الخطاب السياسي المعاصر، تكون بديلا عن النظريات العقلية التي تسود الأنظمة السياسية اليوم كون الخطاب الإباضي – بحسب المؤلف- يمثل في تطبيقاته التأرخية مفهوم العدل، ولا يمكن الاكتفاء بالقول إن الإسلام هو الحل، أو الاكتفاء بالقول إن الحاكمية لله مع إقرارنا بذلك طبعا!! كان على المؤلف وهو ينتقد النظريات السياسية للتراث الإسلامي السائد أن يقدم طرحا واقعيا يمكنه أن يحل محل كافة النظريات السياسية الأخرى. إن العقل الديني الإباضي (الإمامة) كان يحكم عمان حتى عهد قريب (1965م)، ومع ذلك لم يستطع في تأريخه تطوير ذاته أو تطوير نظرياته السياسية في الحكم؛ بل لم يستطع أن يقدم إصلاحات هامة في ملفات عديدة كملف التعليم والصناعة والصحة والاقتصاد والزراعة وغيرها، فضلا عن تقنين ملف الحقوق والحريات والمواطنة، أو ملف التشريع، أو صناعة دولة المؤسسات، بل يمكننا القول إن التحولات المعرفية للخطاب الديني في عمان اليوم كان بفضل النهضة الحديثة التي شهدتها عمان منذ عام 1970، إذ دخل العمانيون مرحلة المعرفة الشمولية التي لم تقتصر على أبناء الزعامات القبلية فقط كما كان يحدث في عهود الإمامة.

  ولهذا فإن الخطاب الديني المعاصر عليه أن يقنعنا أولا بأطروحات علمية بديلة في النظرية السياسية، وأن لا يكتفي بممارسة ذات الشعارات الكبرى التي تقدمها الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم العربي، التي أخفقت في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي. هناك إشكاليات كبرى لم يقدم فيها العقل الديني إلى الآن فهومات معينة قادرة على الانسجام وروح المدنية الحديثة، ومنها على سبيل المثال مفهوم المواطنة انسجاما مع نظريات الولاء والبراء الموجودة في التراث الديني، فهل ستكون التقوى بدلالاتها المعروفة في التراث الديني هي مناط المواطنة في مؤسسات الدولة الحديثة ؟ إن العدل والاستبداد لا دين لهما سوى العقل، ولا مذهب لهما سوى الإنسان، ولهذا نرى دولا لا تدين بالله ربا ولا بالإسلام دينا تمارس العدل وتمحق الاستبداد في كل مؤسساتها، والدول الاسكندنافية خير مثال على ذلك؛ فالكائنات الإنسانية هناك تتحرك بنظام متناه من العدالة الاجتماعية القائمة على فكر المأسسة والتشريع، وهي اليوم تعيش عصر الازدهار المعرفي والاستقرار الاجتماعي والسياسي، وقد وصلت إلى ما وصلت إليه بعد إعلانها قطيعة تامة مع تأريخها الدموي.

علينا أن نعترف بأن التأريخ الإسلامي أيا كان مذهبه كان غارقا في الدماء، وما زال إلى اليوم، ولم يستطع في فترات كثيرة حتى منع حدوث التمزقات الاجتماعية فضلا عن التمزقات السياسية، كما علينا أن ننظر كم من الدماء أريقت من أجل الاصطفاف المذهبي، بل الاصطفاف حول دلالات مفهوم التقوى!!، وكم من المظالم وجدت بسبب فهومات بشرية للدين تتقلب بتقلبات نوازع الفتوى والمرجعيات الدينية، فهل يمكن للعقل الديني اليوم أن يقدم لنا أنموذجا نظريا على الأقل منسجما مع روح الإنسان والتشريعات الحديثة ؟ والمؤلف بذاته يذكر رواية خلع الإمام الجلندى بن مسعود لمجرد بكائه على أقاربه رحمة وشفقة عليهم، فكيف يمكن أن يتعامل العقل الديني اليوم مع التحولات الكبرى التي حدثت في حياة الإنسان ؟! إن العقل الديني بطرائقه ومناهجه الراهنة التي لا تعير للصيرورة التأريخية اهتماما لا يقدم شيئا سوى مزيد من الإغراق في ماضويته وصراعاته المذهبية وتمجيد ذاتيته، مما يؤدي إلى مزيد من نبش قبور التأريخ لتصبح تمثيلات رمزية تؤدي دور الهيمنة على الضمير الجمعي المعاصر، وإلى إحداث إرباكات في المعرفة الدينية تخلق تراكمات مفصلية في الوعي الجمعي، وتأجيج مزيد من الخلافات الدينية الجزئية الشكلانية، ومن ثم البكاء على مفترق الطرق وقارعة التأريخ.

قراءة في كتاب

                                                                             أحمد الإسماعيلي

بتأريخ 21/ 10/2013

11 تعليقات

  1. كلمة حق يراد بها حق، رأي منصف وتحليل جدير بالاهتمام، ورغم ذلك فلا أظن أن كلام الشيخ عن التقوى يتعارض تطبيقيا للمدنية الحديثة، وحسب ما فهمت فإن الشيخ يؤكد على ضرورة ترسيخ التقوى في الناس، وسيكون التطبيق للعدل أمر تلقائي، فلماذا لا يقوم أولى امر في البلد بترسيخ التقوى في نفوس الناس كأمر أساسي للعدل والإنصاف، والقدوة الحسنة أول طرق الترسيخ، فللو أن ولي الأمر اختار من يوسمون بالصلاح والأمانة والتقوى ليكونوا على رأس المسؤلية في الدولة، فهل اختلست الأموال وعطلت القوانين والتشريعات؟!

  2. الأصل نقد الفكرة لكن الناقد تعمق كثيرا في أصحاب الفكرة فلا لا داعي لتتبع أصحاب النصوص فلا ارى فائدة تذكر في نسبتها الى الأخوان أو الأشاعرة أو غيرهم بل هو جانب الصواب عندما استنتج تأثر الاباضية بجماعة الأخوان بينما نجد الكثير من مبادىء الأخوان موجودة عند الاباضية منذ قرون ومطبقة فعليا لديهم مثل جواز الخروج على الحاكم الفاسق وكذلك تأثر الناقد بمواقفه السياسية فعندما كان يتحدث عن شيئين منفصلين حسب رأيه وهما العدالة والتقوى نجده يسقط كلامه على نموذج الامامة التي كانت قمة في العدالة ويستشهد بتعثر التنمية فيها فمع ملاحظة الفرق بين العدالة والتنمية كذلك غض الناقد طرفه عن الظروف المحيطة بالامامة في ذلك الوقت وأخيرا هو يطالب بالحلول العصرية والكتاب من أوله الى آخره ينطق بالحل وهو القرآن الكريم أما اذا كان يقصد الحل كدستور يحوي على مواد وقرارات فبالتأكيد لن يجده في كتاب فكري تاريخي تنويري

  3. يتضح للقارئ أن المقال هذا بعمقه يؤسس لبداية مشروع فكري رائد في موضوعه ولغته و ضروري كمساهمة في خلق وعي معرفي بالواقع العماني، خاصة و أن الوسط الفكري العماني نادرا ما ينتج خطابا نقديا محايدا إذ يقع الخطاب دائما في ثنائية " مع أو ضد " لكنه سيفسر على أنه نقدا مضادا لفكر الشيخ كعادة طرق التفكير لدى القراء الواقعين ضمن دائرة التدين الحركي الذي يقدس الفقيه الرمز

    المقال عميق معرفيا و ثري بريادة طرح كثير من القضايا سواء المعرفية كمسألة السياق التاريخي و الموضوعي لمفهومي العدل و الاستبداد إضافة إلى مفهوم المواطنة مقابل مفهوم الولاء الديني، و لأول مرة يتصدى أحد لمناقشة علاقة الخطاب الخليلي بالخطاب الإخواني.

  4. مقال فعلاً يستحق القراءة و التمحيص ، تمنيت أنه الكاتب ابتعد عن التلميحات الافتزازية التي لا تخدم المحتوى العلمي خاصة و أنه بصدد شخصية استثنائية جديرة بمزيد من التقدير .. المقال لن يعجب الكثير بسبب الأحكام المسبقة و طرق التفكير السائدة و مع هذا فهي محاولة نقدية ثرية

  5. المقال خال من الموضوعية وما هو إلا محاولة خاسرة ﻹبطال المفعول السحري للكتاب في فضح وتعرية الاستبداد وإظهار مواجهته من خلال استلهام ذلك من التأريخ الذي أبرز سماحة الشيخ – من خلال كتابه – نماذجا نجح فيها الجادون في مواجهة الاستبداد.
    ومن خلال ما رأيته من المقال فهي محاولة ربط بين الفكر اﻹباضي العريق والفكر اﻹخواني وما هي إلا محاولة لتشويه الفكرة المشتركة وهي نظرية أن اﻹسلام هو الحل، نظرا إلى القريب المعهود عند من يرون فشل التجرية اﻹخوانية في مصر، إلى جانب أنها تسويق للعلمانية وإبراز لها على أنها الحل بدليل النماذج الغربية.

    مع ترحيبي بفكرة النقد الهادف لمكنونات أي كتاب ولكني أرى أن النقد لمجرد النقد ما هو إلا مرض قلبي أسأل الله أن يشفي كل مبتلى منه.

    دعائي لكم أجمعين.

  6. أراني اتفق كثيرا مع رأي الكاتب ونقده ولقد تحدثت إليك استاذ بدر في نقطة معينة ووجدت الكاتب قد ذكرها في الفقرة الثانية تقريبا من مقاله… اما فيما يخص أنه لم ينصف الإمامة وأنه تحامل عليه أو أن الظروف التي أحيطت بالإمامة ومنعتها من التطوير والتطور فليس هذا ما رمى إليه الكاتب وإنما يقصد بإن الإمامة لم تقم بالدور المنوط بها بسبب عدم انفتاحها على الاخر بل ظلت حبسية فكرة واحدة تحاول دائما الوصول إليها والمحافظة عليها… مما أدى في نهاية المطاف إلى دحرها بسبب تقدم الاخرين عنها فكريا وصناعية وهذا ما كانت الناس تنتظره…

  7. أشكر للكاتب لغته الجميلة، وأسلوبه الذي انساب سلسا من بدء المقال إلى منتهاه؛ وأقف عند النقاط الآتية راجيا أن يتسع لها صدره:

    • يرتب الكاتب على قول مؤلف الكتاب: "تحول الحكم في الإسلام إلى نظام كسروي قيصري" النتيجة التالية: "فالإسلام الذي أتى نورا للبشرية انحرف أتباعه مباشرة بعد سنوات معدودات" وهذا غير صحيح.. فكلام المؤلف لا يعني به إلا الطبقة السياسية الحاكمة التي أشار غير مرة إلى أن لها معارضين كثرا في المجتمع. وبالتالي فهذا لا ينبغي أن يحيل إلى ما تعامل معه المستشرقون على أنه إشكال في واقعية الإسلام، فضلا عن كونه: لا يبرره!

    • ربط مفهوم مفهوم (العدل)العدل بالتقوى يبرره أن المؤلف يتكلم عن مجتمعات إسلامية، يفترض أن تكون الحاكمية فيها لله، وقد أقر هذا كاتب المقال في قوله:"الحاكمية لله مع إقرارنا بذلك طبعا"!.. على أن ثمة فرقا شاسعا لا يخفى على مثل صاحب قلم كهذا بين ربط مفهوم العدل بالتقوى، وبين ما يسميه غلقا للمفهوم في إطاره فقط لأن المؤلف لم يتحدث عن موارد أخرى يرتبط بها المفهوم المذكور.

    • مقارنة نظام (الإمامة) في فتراته السابقة بالنهضة العمانية الحديثة مقارنة غير عادلة. الأولى أن تقارن بما زامنها من أنظمة حاكمة. على أن ما ينظر إليه كأخطاء في ملفات عديدة لا يمكن تقييمه بمعزل عن الواقع السياسي الذي ظهرت فيه دولة الإمامة لا سيما في فتراتها المتأخرة، ومع ذلك فإن القول بأنها لم تستطع تقديم (إصلاحات هامة) في ملفات عديدة يظل كلاما مرسلا يحتاج إلى مزيد من التفاصيل.

    • في رأيي أنه لا إشكال حقيقيا بين مفهوم (المواطنة) ونظريات (الولاء والبراء)؛ فالمسلمون من مواطني الدولة المسلمة ليسوا بالضرورة محل ولاية متفقا عليه، وغيرهم كذلك، ليسوا محل (براءة) متفقا عليه.. وكما أن للمسلمين درجات من الولاية والبراءة؛ فإن لغيرهم –والله أعلم- درجات من المودة والتعامل بالحسنى، كمثل ما يشير إليه قول الله تعالى: " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ "، يضاف إلى هذا ما يمكن أن يستنتج من عيش اليهود جنبا إلى جنب مع المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

    • هل نفهم من إيراد كاتب المقال (رواية خلع الإمام الجلندى بن مسعود لبكائه على أقاربه رحمة وشفقة عليهم) في سياق تساؤله عن (إمكانية العقل الديني أن يقدم أنموذجا نظريا على الأقل منسجما مع روح الإنسان والتشريعات الحديثة) أن ما حصل كان منافيا لروح الإنسان والتشريعات الحديثة؟ .. إذا كان ذلك كذلك؛ فقريب من هذا ما أحسب أن المحاكم المدنية الحديثة تقره اليوم –|وأنا لست قانونيا بالمناسبة|- من ضرورة حيادية القضاة، أعني من حيث صلتهم بالمحكومين، فلا يكون قريبا ذا نسب، ولا بعيدا ذا عداوة!

    • أخيرا .. ارتباطا بتساؤل الكاتب الذي أشرت إليه في النقطة السابقة، فإنني أتساءل: هل كان كل ما قدمه العقل الديني |في مسيرته كلها| ضد الإنسانية وروحها، حتى يكون منطقيا |في المقابل| أن نتساءل عن إمكانية تقديمه لأطروحات تنسجم مع روح الإنسان الحديث؟!!

Comments are closed.